عام 1962 نشر الفيلسوف الأمريكي توماس كون كتابه "بنية الثورات العلمية" وفيه استخدم مفهوم "البراديغم" لبيان الكيفية التي بها يتطور العلم على شكل ثورات تنقله من الأدنى إلى الأعلى.
قبل توماس كون كان المبدأ المستقر بين العلماء هو مبدأ "القابلية للتخطئة". وفي معرض تبسيطه لهذا المبدأ قال الفيلسوف كارل بوبر إنه مهما بلغ عدد البجعات التي رآها المرء طوال حياته فمن غير المنطقي أن يقرر بأن كل البجعات بيضاء إلا إذا كانت لديه قدرات خارقة للطبيعة يستطيع معها أن يقف على تلة ما ويرى كل البجع الذي في الدنيا دفعة واحدة ويتأكد أنه لا توجد بينها بجعة واحدة غير بيضاء، وما عدا ذلك فالتعميم غير جائز منطقيا حتى وإن كنا مقتنعين بأن كل البجعات بيضاء، فقد نعثر يوما ما في مكان ما على بجعة غير بيضاء تبطل معها نظرية أن " كل البجع أبيض".
والمستفاد من هذا المبدأ أن أهم شرط يجب أن يتوفر في العلم هو قابليته للتخطئة، بحيث لا يصح القول عن نظرية علمية ما أنها صحيحة بالمطلق، فالعلم نسبي وإلا فقد صفته كعلم وفقد بالتالي قابليته للتطور. وعلى هذا الأساس كان الاعتقاد السائد بين العلماء أن العلم يتطور بفضل اكتشاف هذا العالم أو ذاك لأخطاء موجودة في هذه النظرية العلمية أو تلك، وهذا ما لم يقبل به توماس كون. فما هو الجديد الذي أضافه كون إلى فلسفة العلم؟ تحدث كون عن أربع مراحل لتطور العلم هي مرحلة ما قبل البراديغم؛ ومرحلة البراديغم؛ ومرحلة الأزمة؛ وأخيرا مرحلة البراديغم الجديد، وقد أوضح هذه المراحل على النحو التالي:
مرحلة ما قبل البراديغم هي المرحلة التي لم يكن فيها العلم قد وجد على أي مستوى كان. لم يكن هناك علم الفيزياء ولا علم الكيمياء ولا علم البيولوجيا. أما مرحلة البراديغم فهي المرحلة التي يكون فيها العلم قد وجد واستقر عند مستوى معين، وكمثال على ذلك نشير إلى علم الفيزياء في طوره المسمى "فيزياء نيوتن". ولكن ما هو البراديغم؟
البراديغم هو منظومة النظريات والمبادئ والقوانين والمفاهيم ...الخ التي يعتمد عليها العلماء في حقل علمي معين ويمارسون عملهم وفقا لها باعتبارها مسلمات لا يختلف حولها اثنان في هذا الحقل. فعلى سبيل المثال كل العلماء الذين يشتغلون في حقل البيولوجيا مسلِّمون بنظرية التطور والانتقاء الطبيعي، وجميعهم مسلِّم بأن الكائنات الحية مترابطة، وأن جسم الكائن الحي مكون من خلايا وأن الخلية تحتوي على نواة وغشاء وسيتوبلازم وفيها DNA يتألف من كذا وكذا. وكل العلماء الذين يشتغلون في حقل البيولوجيا يتحاورون ويتناقشون ويتفاهمون من داخل هذه المسلمات. وكل حقل علمي له براديغم خاص به بما في ذلك العلوم الإنسانية كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم السياسة ...الخ
إذاً البراديغم هو نموذج فكري وإطار نظري لحقل علمي معين، وهو الذي يصوغ نمط التفكير داخل هذا الحقل. والبراديغم يتسم بالثبات لعقود مالم يصادف أزمة تشل قدرته على فهم وتفسير الظواهر الجديدة وفقا لمسلماته القائمة وقتذاك. وهذه الأزمة هي المرحلة الثالثة المشار إليها أعلاه. والسؤال: كيف تتجلى هذه الأزمة؟
ظلت النظريات والمبادئ والقوانين والمفاهيم التي أنشأتها فيزياء نيوتن تمثل البراديغم الذي بقي علماء الفيزياء يشتغلون من داخل مسلماته لزمن طويل إلى أن تعرض هذا البراديغم لأزمة تجلت في عدم قدرته على تفسير ظواهر لم يألفها من قبل مثل سرعة الضوء على سبيل المثال. وقد حاول العلماء أن يفسروا هذه الظاهرة من داخل هذا البراديغم ولم يفلحوا برغم التعديلات والتحسينات التي حاولوا إدخالها عليه. وقد استمرت هذه الأزمة لزمن طويل إلى أن جاء آينشتاين وتجاوزها بحلول من خارج البراديغم القائم. وعلى هذا الأساس تم الانتقال من فيزياء نيوتن إلى فيزياء آينشتاين التي أسست لبراديغم جديد في حقل الفيزياء دون أن تلغي البراديغم القديم وإنما استوعبته بعد أن بينت محدوديته. والبراديغم الجديد هو المرحلة الرابعة السالفة الذكر أعلاه.
لقد كشف توماس كون من خلال مفهوم البراديغم عن ميكانيزمات تطور العلم من المستويات الأدنى إلى المستويات الأعلى، ولا فرق في هذا بين ميكانيزمات تطور العلوم البحتة والعلوم الإنسانية، مع ملاحظة أن العلوم البحتة تتطور عمودياً بينما تتطور العلوم الإنسانية أفقياً.
ولمقاربة تطور العلوم البحتة عمودياً يمكن أن نشبهها بعمارة شامخة بدأت بدور واحد استقر فيه سكانها وعندما ضاق بهم الدور الأول استحدثوا دورا ثانيا وانتقلوا إليه وتركوا في الدور الأول ذكرياتهم وكل ما لم يعد يلزمهم، وهكذا ظلوا-وسيظلون-ينتقلون من الدور الأدنى إلى الدور الأعلى منه في صيرورة دائمة لا تعرف الثبات. ولذلك عندما نُقبلُ على دراسة علم بحت كالفيزياء مثلا فإننا ندرسه ابتداء من الدور الذي أصبح فيه، أما الأدوار السابقة فهي متاحة فقط لمن يريد أن يدرس تاريخ الفيزياء. والخلاصة أننا ندرس العلوم البحتة ابتداء من مستوى التطور الذي انتهت إليه أما المستويات السابقة فينظر إليها على أنها من تاريخ العلوم.
ويختلف الأمر بالنسبة للعلوم الإنسانية التي تتطور أفقيا، فنحن لا ندرسها من حيث انتهت وإنما من حيث بدأت. وهذا يفسر لماذا على دارس الفلسفة أن يبدأ دراسته من عند سقراط وافلاطون وأرسطو وليس من الفلسفة المعاصرة، وقل مثل هذا عن بقية العلوم الإنسانية. وبسبب هذا الاختلاف بين العلوم البحتة والعلوم الإنسانية اتخذ بعض المفكرين-سمير أمين كمثال-موقفا متحفظا من إطلاق مسمى "العلم" على العلوم الإنسانية، فهم يقولون "الفكر الاجتماعي" ولا يقولون "علم الاجتماع"، ويقولون "الفكر السياسي" ولا يقولون "العلوم السياسية"، وعندهم أن ما نسميه بالعلوم الإنسانية لا يمكنها أبدا أن تصبح علوما تتوفر على شروط الصحة المتوفرة للعلوم البحتة. ففي العلوم الإنسانية تلقي الذات الدارسة بكثير من تحيزاتها على الموضوع المدروس، بينما تنعدم هذه التحيزات في حالة العلوم البحتة.
والآن لنسأل: هل مفهوم البراديغم يسري فقط على هذه المجموعة أو تلك من العلماء المشتغلين في هذا الحقل العلمي أو ذاك أم أنه يسري على كل الناس؟ الحقيقة أن كل إنسان لديه براديغم يضعه في مربع واحد مع كل الناس الذين يشتركون معه في هذا البراديغم ويشكلون معا مجموعة متجانسة ذهنيا ولديها مسلماتها المشتركة التي ينعدم معها الخلاف والاختلاف الفكري إلى درجة تبدو معها المجموعة الكبيرة من حيث الكم كما لو أنها شخص واحدا من حيث النوع. إننا إذن إزاء مجموعة ينعدم فيها التعدد الفكري مقابل حضور الواحدية الفكرية. وفي مجموعة كهذه يستحيل أن تكون الحوارات التي تجري داخلها حوارات مثمرة معرفيا وفكريا لأنها من قبيل حوار الذات مع الذات أي مع نفسها وليس مع الآخر المختلف. وإذا وجدت مباراة داخل هذه المجموعة فإنها لا تكون بين أفكار تسعى إلى إثراء المعرفة وإنما بين أشخاص يتنافسون على تحقيق المكانة.
إننا حينما نتحدث عن براديغم سين أو صاد من الناس فإن حديثنا ينصرف إلى عقله. والعقل هنا ليس بالمعنى العام والمجرد وإنما بالمعنى الخاص والملموس، أي عن عقل محدد شكلته مدخلات معينة وصاغت إطاره المرجعي وجعلته يفكر بهذه الطريقة وليس بغيرها. إنه العقل الذي يقبل أفكارا معينة متسقة مع إطاره المرجعي ويرفض أفكارا أخرى غير متسقة مع هذا الإطار. والعقل بهذا المعنى هو منتج اجتماعي ثقافي يكتسبه الإنسان من البيئة التي نشأ فيها، وتتضافر على صياغته عوامل كثيرة بينها الأسرة والمدرسة والإعلام والجامع والمجتمع ...الخ. ولمقاربة الكيفية التي يشتغل بها هذا العقل-البراديغم سنورد بعض الأمثلة:
أثناء انعقاد مؤتمر الحوار الوطني في فندق موفنبيك قدم أمين عام حزب الرشاد السلفي مداخلة في فريق بناء الدولة قال فيها: "لماذا نختلف حول المرجعية الدينية للدولة ونحن جميعا مسلمون؟". وهذا سؤال استنكاري مصدره البراديغم الذي يملي مسلماته على عقل هذا الرجل، أو قل الذي صاغ عقل هذا الرجل. وواضح من هذا السؤال الاستنكاري أن الرجل يعتبر عدم القبول بالمرجعية الدينية للدولة خروجا على عقيدة الأمة وعلى ثوابتها. وأمام مسلمة ثوابت الأمة تسقط قيمة الحوار وتعلو قيمة الجهاد. وأنت عزيزي القارئ إذا وجدت نفسك متفقا مع كلام هذا الرجل فاعلم أنك تشترك معه في البراديغم نفسه، أما إذا وجدت نفسك غير متفق مع كلامه فهذا لأن لديك براديغم مختلف. والآن لنستمع إلى البراديغم المختلف ماذا قال.
انبرى شخص آخر وردَّ قائلا: نعم سيدي نحن جميعا مسلمون، ولكن من حيث موقعنا في الخارطة الدينية للعالم، إننا مسلمون بالنسبة لليهود والمسيحيين والهندوس والبوذيين، أما بالنسبة للدولة التي نريدها فنحن جميعا مواطنون لنا حقوق وعلينا واجبات بصرف النظر عن إيماننا أو عدم إيماننا.
إننا في هذا المثال أمام براديغم وبراديغم مضاد، أي أمام إطارين مرجعيين مختلفين كل له منظوره الخاص للدولة وللمجتمع وللفرد في المجتمع. البراديغم الأول يختزل مفهوم المواطن في مفهوم المؤمن وينظر إلى المجتمع على أنه جماعة المؤمنين التي يجب أن تنضبط للذود عن ثوابتها، أما الدولة فهي في نظر هذا البراديغم كيان متعالي على المؤمنين، وهي وسيلة الله لتحقيق شريعته، وكأن الله كائن سياسي له أجندة يريد أن يحققها عبر الدولة. وبما أن الله لن يهبط من عليائه لممارسة السياسة وإدارة الدولة فإن الإسلام السياسي هو الذي سيصعد إلى العلياء ليقوم بهذه المهمة نيابة عن الله. وهذا هو الأساس والمنطلق الذي يشتغل عليه دعاة الخلافة ودعاة الإمامة، رغم ما بين الفريقين من خلافات واختلافات بسببها استطالت الحروب وأزهقت الأرواح وأريقت الدماء طوال تاريخ المسلمين، وهو تاريخ دموي بكل المقاييس.
البراديغم الثاني يتحدث عن المواطن وليس عن المؤمن باعتبار مفهوم "المواطن" أوسع وأشمل من مفهوم المؤمن. وفي مفهوم "المواطن" تتداخل وتتفاعل عوامل كثيرة ومعقدة بينها الاجتماعي والسياسي والتاريخي والثقافي، بينما مفهوم "المؤمن" مفهوم ديني بحت. والمواطن في البراديغم الثاني فرد بالمعنى الكيفي وليس الكمي، أي أنه إنسان له فردانيته وله هويته الشخصية التي تميزه عن بقية أفراد المجتمع. وإذا كان المواطن في البراديغم الثاني فردا بالمعنى الكيفي فإن المؤمن في البراديغم الأول فرد بالمعنى الكمي يكرر غيره من الأفراد الذين يشكلون الجماعة المؤمنة ويتجانس معهم ليكونوا معا كالبنيان المرصوص أو كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وإذا كانت قيمة المواطن تكمن في ذاته المتفردة وفي ال(C.V) الذي يحمله (سيرته الذاتية) فإن قيمة المؤمن تكمن في الإيمان الذي يعمر قلبه ويدفعه إلى الذوبان داخل جماعة المؤمنين ليشكلوا معا عصبية واحدة لمواجهة عصبيات أخرى مخالفة لهم.
وفي مثال مشابه غرَّد عبد الله أحمد العديني قائلا: "نعلن ونكرر الإعلان أن تاريخنا ونسبنا وقوميتنا وسلالتنا ووطننا هو الإسلام، والإسلام وحده وما عداه فهو جاهلية ندوسها بأقدامنا". ومرة أخرى عزيزي القارئ إذا راقت لك تغريدة العديني فأنت وهو ومعكما أمين عام حزب الرشاد تشتركان في براديغم واحد، وبسبب هذا البراديغم يتعذر عليك إدراك المخاطر التي ينطوي عليها هذا الكلام.
إن العديني في التغريدة المذكورة يرفض القومية العربية لصالح الأممية الإسلامية ويرفض الأخوة في الوطن لصالح الأخوة في الدين، ويرفض الرابطة الوطنية ولا يقبل إلا بالرابطة الدينية مع أن الرابطة الوطنية مفهوم أشمل لا ينفي الرابطة الدينية وإنما يستوعبها، وهذا ينم عن ذهنية تعيش في القرون الوسطى وفي كنف الدولة الدينية التي كانت تصنف رعاياها إلى مؤمنين وأهل ذمة، وبما أن هذه الثنائية لم تعد مقبولة في زمن الدولة الوطنية فالعديني يستبدلها بثنائية المؤمن والكافر وينظر إلى الدولة الوطنية وإلى الوطنية والقومية على أنها من البدع. إننا إزاء ذهنية تؤسس لحروب أهلية، وهي مثابرة على هذا التأسيس منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي وبتمويل سخي من دول البترودولار التي صدرت هذا الخراب إلى كل الدول العربية. والبترودولار وليس فائض الإيمان هو الذي وقف وراء سجود محمد متولي الشعراوي شكرا لله الذي كتب النصر لإسرائيل ضد جمال عبد الناصر بحسب إمام الدعاة، الأمر الذي يؤكد أن الإسلام السياسي يرفض تماما فكرة الوطنية باستثناء المراجعات التي يجريها الغنوشي وعبد الفتاح مورو في تونس.
وفي مثال ثالث على كيفية اشتغال البراديغم كتبت، مؤخرا على فيسبوك تغريدة قلت فيها: "المحجبات نوعان. نوع تحجب بغير إرادته ويعلم أنه تحجب بغير إرادته. والنوع الثاني تحجب بغير إرادته ولكنه يعتقد أنه تحجب بإرادته. النوع الأول صاحب إرادة ويعلم أنه صاحب إرادة. والنوع الثاني بلا إرادة ولكنه لا يعلم أنه بلا إرادة". وقد قلت هذا الكلام لعلمي أن الحجاب من السياسة وليس من الدين. لكن معظم ردود الأفعال جاءت من الذباب الالكتروني المحسوب على الإسلام السياسي، ولأن هذا الذباب يشترك في براديغم واحد تعذر عليه أن يفهم محتوى التغريدة، بل وصفني بالجنون. ورأفة مني بهذا الذباب سأذكر له الواقعة التالية:
عندما كان مجلس النواب يناقش مشروع قانون لتحديد سن زواج الفتيات بثمانية عشر عاما قامت قيامة "العالم الرباني" عبد المجيد الزنداني ودعا "علماء اليمن" إلى جامعة الإيمان، وهناك استجرَّ كل ما في جعبته من المحفوظات التي تعتبر تحديد سن زواج الفتيات تعديا على شرع الله وعلى سنة رسوله. لكن الأمر لم يقف عند هذا المستوى من الاحتجاج وإنما ذهب الزنداني و"علماء اليمن" إلى تنظيم تظاهرة نسائية ضد مشروع القانون غطَّتها كاميرا قناة سهيل، وأمام هذه الكاميرا تبارت النساء المحتشدات كل منهن تريد أن تظهر قوة إيمانها وغيرتها على شرع الله، وجميعهن كنَّ مع زواج القاصرات. والآن لنسأل الذباب الالكتروني إياه: هل المحتشدات في هذه التظاهرة كنَّ متمتعات بالإرادة الحرة أم كنَّ مستلبات؟ أعلم سلفا أن البراديغم سيقول: كنَّ متمتعات بكامل إرادتهن.