القصة الشهيرة عن مشاركة الشاعر اليمنى الراحل عبدالله البردونى فى مهرجان الموصل بالعراق ديسمبر 1971، بمناسبة مرور اثنى عشر قرنا على وفاة الشاعر العربى الخالد حبيب بن أوس الطائى المكنى بأبى تمام والذى عُقد فى الموصل، بحضور كثيف لأصحاب الفكر وأرباب اللغة والبيان، قصة يحفظها معظم اليمنيين ومحبى الشاعر اليمنى الكبير من مختلف ارجاء الوطن العربى.
كيف تحولت قصيدة البردونى التى قالها لأبى تمام، إلى أعظم فرصة للتعريف باليمن ومعاناته ونضال شعبه، وهو البلد الخارج آنذاك من حرب ضروس وخلافات لم تتوقف للأسف حتى الساعة. القصيدة التى قال عنها الدكتور عبدالعزيز المقالح رحمه الله بأنها القصيدة الضجة، يحفظها معظم اليمنييون ومحبى البردونى وهم كُثر.
صورت القصيدة الشهيرة حال الأمة العربية بزفرة ألم وإن أُعيدت اليوم فكأن قائلها يعنى بها اللحظة المتشظية لهذه الأمة الآن وليس قبل خمسين عاما ونيف.
ولعل بيت مثل قوله : ( تنسى الرؤوسُ العوالى نار نخوتها
إذا امتطاها إلى أسياده الذنب).
حكمة لاتغادر الذاكرة مع كل مشهد حزين حولنا.
قدر لى أن أعرف الراحل كمعظم أبناء جيلى عن قرب وترك فينا ذكريات ومواقف عِدّة تحتاج مساحة أخرى للحديث عنها. ولكن ما أحببت أن أشير إليه هنا هو عن تلك اللحظة التى يصبح لقصيدة واحدة دور مؤسسات مختلفة للتعريف بقضية ما، عندما كان منبر الكلمة يخلق زلزالاً يُحدث فارقاً فى الواقع.
أما الآن فى زمن التيك توك وتشظى منابر الإعلام الجديد وفضاء التغريدات العابرة وهواة الحديث العابر ! ، فعلينا أن نعيد النظر مرتين.
العبرة من الحكاية تكمن فى أهمية صمود جبهة الثقافة فى أثناء الأزمات التى تمر بها الأمة. فتلك جبهة تعيد للأمة تماسكها، وبقدر ما تكون كاشفة للاخطاء محاربة للخطايا، بقدر ما تكون صانعة للأمل الذى يُبقى الأمة فى دائرة الحياة، ويخرجها من مقابر اليأس. فى مسار نضالات الشعوب سنجد الثقافة عندما تسترد عافيتها تفيق تلك الشعوب المنكوبة وتستعيد ألقها، عشرات الأمثلة يمكن تذكرها حول ذلك. واذا ما دُمرت جبهة الثقافة تدخل الأمة فى نفق من التيه المؤلم.
أعيد هذا القول وأنا أرى عشرات العناوين لإصدارات يمنية عديدة، قامت بها جهود كوكبة من المثقفين والأدباء، تجاوزوا حالة التشظى السياسى الذى يعانى منه اليمن، وصنعوا فارقا يستحق التقدير.
تحولت القاهرة بحكم موقعها الأصيل فى قلب اليمنى الذى يغادر إليها كلما ترك بلاده وتكون هى محطته الأولى دوما، وبعدها ينظر أين تقذف به أرصفة المدن الغريبة!.
تحولت إلى محطة يمنية لأنشطة ثقافية عديدة، وإلى دور نشر مختلفة،
ودون أى دعم رسمى أو مؤسساتى نجح اليمنيون فى أن يكونوا بكل محفل أدبى ومعرض للكتاب يحملون همهم وحلمهم، وأرفف جميلة محملة بعشرات الإصدارات المختلفة من عناوين الشجن .
نعم لم أجد بعد أثر صدمة الحرب الموجعة تنعكس بعمقها على مختلف إصدارات السرد والدراسات، لكون المعركة لاتزال تستنزف منا أجمل لحظات عمرنا، ولكنى على ثقة أن هذا الشعب سيخرج معافى.
أمام حملات عجيبة تتناول اليمن تدمى القلب لا تجد لها تفسيرا غير أن البعض لم يغادر ثارات عشائر الصحراء.
نجد تشبثا يمنيا بالهوية اليمنية وعمقها، وجهودا فردية متنوعة تفتح ثغرة للنور فى جدار الحرب والشتات.
هذه الجهود فى فتح مكتبات يمنية وإنشاء دور نشر تعمل بشكل متميز، وتعزز حضور الكتاب اليمنى فى كل معرض متاح، هى واحدة من علامات التعافى اليمني، وخطوة فى صون الجبهة الثقافية من التشظي.
وكما بدأ البردونى مخاطبا أبو تمام ( حبيب بن اوس الطائى )، ومخاطبا جمهوره العربى فى قصيدته الشهيرة عام 1971، يردد اليمنيون اليوم نفس زفرة شاعرهم الكبير عند كل لقاء بالجمهور العرب.
*عن بوابة الاهرام..