كتب - فتحي خطاب:
رغم انقضاء 53 عاماً على رحيل الزعيم القومي (الاستثنائي) جمال عبدالناصر، إلا أنه ما زال حاضراً بقوة في قلوب وعقول ملايين المصريين والعرب، بشكل طاغ لم يسبقه إليه زعيم آخر، على الأقل فى التاريخ الحديث، ولا يزال نبض الشارع العربي ـ بصفة العموم ـ يقول حتى اليوم على لسان الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودي (يعيش جمال عبد الناصر.. يعيش جمال حتى ف موته)، وقد شكل ذلك انحيازا من الشعب للزعيم الراحل، فلم يكن عبدالناصر بأى مقياس، شخصية عادية دفعت بها المقادير إلى الزعامة، وما أكثر ما فعلتها المقادير فى كل زمان، وفى كل مكان، وإنما كان عبدالناصر ـ وبكل المقاييس ـ شخصية استثنائية فرضت نفسها على مجريات الأحداث فى عصرها، وتركت بصماتها، ومدت آثارها العميقة والخطيرة إلى العالم العربى كله، وأيضاً إلى كثير من دول العالم الثالث، إن لم يكن إلى كل العالم الثالث.
شخصية تاريخية استثنائية
ومهما يكن من أمر الجدل القائم حول شخص عبدالناصر.. وحول عهده.. وحول ما حفل به ذلك العهد من تغيرات جذرية وأحداث جسام ـ فلسوف يبقى «الرجل الكبير» بعد أى جدل، وبرغم كل جدل، شخصية تاريخية استثنائية، ولسوف تبقى ثورة الرجل الكبير «ثورة يوليو 1952» واحدة من أعظم ثورات العصر، إذا نحن قسناها بحجم التغييرات الجذرية التى أحدثتها فى كيان المجتمع المصرى الذى قامت منه، أو بحجم التغيرات الجذرية أيضا التى أحدثتها فى كيان المجتمعين العربي والأفريقي اللذين امتدت إليهما آثارها، بدءاً من الجزائر فى أقصى المغرب، ومروراً باليمن، وانتهاءً بأفريقيا التى كانت تحت نيران احتلال أجنبي لم يكن وارداً ضمن مخططاته أن يتخلى عنها لأصحابها، لولا أن قامت ثورة يوليو واستطاعت أن تشعل النار من حوله وأن تزلزل الأرض تحت قدميه.
الصورة الجماهيرية للزعيم..محصّنة ضد العبث
ومهما كانت المتغيرات على الساحتين المصرية والعربية ومرورا بالساحة الأفريقية، فإن ما هو باق هو صورة عبد الناصر، وما أصبحت ترمز إليه من الإحساس بالكرامة.. صورة نفذت إلى قلوب الجماهير العربية ووجدانها فى أقطار لم يكن لعبد الناصر سلطان عليها. والصورة الطبيعية والجماهيرية للرجل كانت نابعة من ارتباطه بتراب هذا الوطن الذى جسده فى شخصه حتى أصبح هو ذاته مادة مثالية لدراسة حالة نادرة من تحليق صورة الزعيم السياسى فى آفاق لم يسبق أن وصل إليها أحد. وهكذا أصبحت حقائق التاريخ تؤكد، أنه ليس صحيحا أن ما يبقى من الزعيم هو أعماله الملموسة والمحسوسة، وإنما ما يبقى من الزعيم هو صورته غير الملموسة وغير المحسوسة، فالأعمال العظيمة التى يقوم بها الزعيم يمكن أن يهدمها النظام الذى يليه أو يحاول تشويهها، لكن صورته الجماهيرية هى ما لا تستطيع أى يد أن تطولها ، فهى محفوظة فى أفئدة الناس، وذلك يحصّنها ضد محاولات العبث بها.
إن ارتباط جمال عبد الناصر بالأرض وتراب الوطن هو أحد أسباب صياغة صورته الجماهيرية . ففى يوم 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1954، وفى ميدان المنشية بالاسكندرية ، انطلقت ثمانى رصاصات فى سماء الميدان (من تنظيم الإخوان المسلمين)، نحو صدر جمال عبد الناصر، ظل واقفا صامدا متحديا الاغتيال ومتحديا القاتل، ووسط دوى الطلقات صاح جمال عبد الناصر قائلا للجماهير المحتشدة فى الميدان: «فليبق كل فى مكانه.. إننى حى لم أمت، ولو مت فإن كل واحد منكم هو جمال عبد الناصر.. ولن تسقط الراية».
« مصر الفتية YOUNG EGYPT » حديثا مع الرئيس عبدالناصر سأله فيه عن الشخص الذى حاز إعجابه من بين قادة الثورة الفرنسية : دانتون مثلا أم روبسبير؟ ، فقال له عبد الناصر على الفور :لا أحد فى الحقيقة ، لقد أعجبت بفولتير لأنه كان رجلا هادئا ولم يكن قاسيا ، أما الباقون فقد كانوا دمويين للغاية ، فقد قتل كل منهم الآخر ، وماتوا جميعا عن طريق العنف..وشرح جمال عبد الناصر للكاتب البريطانى كيف أنه تعلم من رائعة تشارلز ديكينز «قصة مدينتين » عن الثورة الفرنسية : أنه إذا بدأت الثورة بإراقة الدماء فلن تتوقف عن ذلك وسيقلدها الآخرون .
وهنا أيضا نجد أن جمال عبد الناصر كان يمثل نموذجا فريدا لزعيم يأتى بثورة تطيح بالنظام القديم وتعادي الاستعمار والتبعية فى الخارج، والاستغلال والرأسمالية المتوحشة فى الداخل دون أن يلجأ لاستخدام العنف كوسيلة لإحداث التغييرات الجذرية التى كان يسعى لتحقيقها.
وهنا أيضا نجد أن جمال عبد الناصر كان يمثل نموذجا فريدا لزعيم يأتى بثورة تطيح بالنظام القديم وتعادي الاستعمار والتبعية فى الخارج، والاستغلال والرأسمالية المتوحشة فى الداخل دون أن يلجأ لاستخدام العنف كوسيلة لإحداث التغييرات الجذرية التى كان يسعى لتحقيقها.
عن المجد المصرية..