الرئيسية المقالات مدارات في رثاء الراحل عبدالباري السيد
في رثاء الراحل عبدالباري السيد
زيد عبد الباري سفيان
زيد عبد الباري سفيان

في ذلك المساء القبيح تداخلت علي أصوات الرعب لتقرع وسط قلبي ألحان الهدم والبكاء والنحيب . كنت أتمنى أن أتمكن من لجم أفواههم وهم يصوبون قلبي المنهوب بترهات ثرثرتهم عن رحيل الزعيم عبدالباري علي السيد

كانوا باطراد ورتابة مقيتة يكتسحون موطن الأمل بداخلي ليحيلوه هشيما تذروه الرياح

كانوا وبقبضة حديدية تطفح بالقسوة يشعلون نارا بآخر كوخ يسكنه جنوني الذي يرفض خبر الرحيل .

أصدرت سيلا من التوسلات أن يتركوا أنفاسي تخاطب أحلامي بخلود ضحكاته الحالمة ، لكن دون جدوى كانت حماقة الموت قد رمتنا في قعر بئر ليس له قرار .

كان الموت وكان قبح صنيعه أقوى مني ومنهم .

كانت ليلة نشرتني غسيلا مبللا بالدمع على أرجوحة الزمن اللعين والظالم ..

كنت ليلتها كرداء ممزق حزين قذفته عواصف الرياح فتعلق بأشواك الفلاة ، طوقتني صدمة وأكثر منها ذهول وحيرة ودهشة وأسئلة موجعة .

كيف تطاوعهم أنفسهم أن يزرعوا الجسد الغالي في التراب ؟

كيف يتركون عطر الورود وزهور الحياة في ذلك النفق المظلم ؟

كيف يطوون المثل والمعاني وقيم الشرف والعفة والشجاعة والكرم والذهب والجوهر في بطن الأرض ؟

ثم كيف أسمح لنفسي للتصديق بما جرى ؟

كيف أجازف وأصدق بأن الموت الجبان قد غلب أسد الله وهو الذي لا يغلب ؟

ثم كيف أصدق الوشاة أنه قرر ذبحي بسكين الفراق ؟

هل صار يقسو علي هكذا ؟

لما يعمد بتمزيق عمري والإجهاز على ما تبقى من قلب أجهدته السنين وأنهكته كثير من رزايا وبلايا ؟

ليته يرى كيف تهتكت أستار العمر والحياة برحيله .. ليته يشاهد دموعنا وعذاباتنا لرحيله كما كان يتمنى .

كنت فديتك تقول (ليش شاتنسوني إشتي تتغذبوا وتبكوا علي عمركم) وهاهو رحيلك إعلان لشرارة بدء انطفاء الحياة واختفاء الفرح

هانحن ننفذ حكمك فينا أن تظل حياتنا مأتم لا يكتنفها شيء غير ذكريات تخط نفسها في جدار العمر إحباط وحسرة وألم

لا يا حبيبنا لن ننساك وليس بمقدورنا ذلك هل ننسى ذواتنا هل ننسى أسماءنا

كيف نمسح اسمك من دمنا وحدقات عيوننا ؟

كيف نطفئ نور الهداية ؟

كيف وقد صار اسمك مفتولا مع آيات الإله في صدور أبنائنا وبناتنا

سيظل عنوان كل صفحة من صفحات تاريخنا تحمل إسم عبدالباري

كانت حياتك سرد لقصة الحياة كاملة كتبت بحرارة وعنفوان صدعت بالحقيقة وانتصرت فيها قيم الإنسان وتعراء فيها الأشرار

قلبي ياسيد الرجال يغالبه الهوى لرؤية عينيك

رسمت لنا مشيئة الخالق عينين حانيتين تداعبان قطرات الندى فيما يشبه دموع الحزانى

ولسانا ينثر الخير كزخات مطر وروحا تسافر فيها خيول الحلم لتحضر لنا سيرة الصحابة وآل بيت النبي

طال صمتي بعد رحيلك سيدي .. رحيلك الذي ألقمني غصة الزمان وجمر الفراق المتقد بأحشائي .

كان رحيلك شهادة وفاة لأي رغبة لي في الحياة وإيذانا بانقطاع النهر وارتفاع أكف الغيث وجفاف الأرض وذبول الورود ..

كان رحيلك خنجرا إنغرس في قلبي وقطع أوصاله وترك جسمي المتهالك يترنح فوق أشباح الرحيل .

في هذه اللحظات يؤطرني انبعاث نسمات وفاء لأحبتك تنبعث من جبن العامرية والقلعة ومدرسة القديرة زينة وبقية صروح الحضارة لتوقظ المطر وتشعل إرتعاشة القلب فتفزع منه يمام دامن وحمام (عيل)العامرية وهديل حزين يلملم بعضا من لهفتي والكثير من شهقات لوعة تشد العامرية ونادي ومدارس جبن بوثاق حزين مفتول من جمرات فراق ودموع قانية تتجاوب ونحيب الشمس ونشيج القمر ..

فرحت أستجمع أوجاعي وأسترجع نشيد المطر حينما رقصت على إيقاعها قيم الخير والتسامح والحب ..

توكأت جرحي وعنفت رغبة نفسي في الانطواء والانكفاء على حزني وألمي ودمعي

حركت جسدا متعبا يخترقه نفسا متقطعا ونبضا متهدجا يمد الجسد بالموت أكثر مما يمده بالحياة ..

ويدا مددتها لا تقوى على شيء محاولا عبثا أن أتجلد وأتصبر وأطوي ألمي ودمعي لأفي بجلال قدرك وسمو اسمك..

وبعد أن أسرجت حرفي كي أدرك موكبك وأطاول شمسك تعثر حرفي وخيلي وحبري .. فأي حبر غير دم قلبي يمكن له أن يرصد شمس الضحى ؟

أي حرف يا وجعي يستطيع أن يلملم عطرا منثورا في الحياة ؟

كيف لأوراق مبعثرة أن تحوي سيرة تخطت حدود البشر ؟

كيف لي يا زعيم أن أتنكر لذاتي وأتبرأ من ألمي ودمعي ودمي لأرصد كيف طوت الأرض عطر الحياة وجبينا مشرقا بالحق المبين ؟

كيف لمن يغرق في بحر الجراح أن يستوعب اكتمال الحلم وألق الحياة ؟

كيف له وهو بهذا الوهن والضعف أن يمسك بهذا الضياء والنور القادم من عوالم العشق البعيدة

ستعذرني كعادتك فأنى لمثلي وأنا الذي تلبسته ثياب الفجيعة والردى أن يعيش الحلم ويقترب من حكاية الحياة

كيف لمن يطويه الموت أن يقترب من رحابك ويدنو من ظلالك وأنت من نسج خيوط الشمس وغزل إشراقة الحياة

كيف لمثلي أن يكتب عنك وأنت الذي كتبتنا طهرا وإيمانا وكرامة

دلني كيف يا سيد الرجال ؟

كيف يا سيد الحرف والكلمة وأنت الذي بقيت تنطق الحرف بأفواه عصافير الجنان

وقد كنت تنطق الحرف سلوكا حينما جاهدت جموع اللصوص والشياطين لتقتطع أو تنتزع من أفواههم جزء ولو يسيرا قوتا للجائعين

بقيت في الميدان وحيدا تعارك الشر وزبانية الشيطان وقد كانت كل الأبواب مشرعة لتتصدر الجميع

لكنك تركتها للمحابي والوصولي الجبان ليصل إلى مبتغاه

في الأخير أريد أن أقول لك أنني قد أحببت الجنة أكثر من ذي قبل وأطمع بدخولها لأنك فيها

صدقني سيزداد سعي الناس وستتضاعف جهودهم لدخولها فالكل مخمورين بحبك يضنيهم الشوق لرؤيتك حد الهوس

الكل يدعي أنها فجيعته وأنه أكثر من أثخن الجراح

الكل يرى أحقيته بالمواساة فهو أقرب الناس إليك وهي مصيبته وأنت فقيده

حتى قيم الدين والخير والحب والشجاعة وكل مكارم الأخلاق تبكيك وتتنازع اسمك وترى أحقيتها بك وأحقيتك بها

حدث ملائكة الرحمن عنا وعن ذكرانا وشرفني بذكر إسمي في حضرتهم

واعلم بأن شباب العروبة والإسلام في تونس ومصر واليمن وفلسطين ينتصفون للمظلومين ويردون الاعتبار للإسلام وللتاريخ وللإنسان العربي المسلم

كل جوانحي تستحثني للتأمل فيك والإغتراف من نهرك المتدفق الذي سكبته مياها ناعمة رقراقة

...........

صعدت الروح تمتطي براق النبي لتسلب القمر إسمه ونوره وتراقب إصطفاف النجوم وهي تعيد ترديد النشيد : طلع البدر علينا

فتبدو شمسا تعانق زخات المطر ونسمات هواء تغسل أوجاع أسراب حمام تهبط على عامرية جبن ومنارتها الباسقة

وفي ركن قصي يلمع ضوء خافت يخنقه الظلام فيومض بعبرة حينا ونحيب في أحيان أخر

والسماء مطعونة بأيد تتعالى إلى السماء بأكثر مما تملك لتتشبث بأستار الأمل الآفل وعويل وصراخ ممهور باالدموع يتداخل مع صوت متعثر تصدره المآذن يطوي ربيع الحياة وإنهيار قلعة الثائرين وحصن المجاهدين التي أطلت يوما على حياتنا فأرسلت الشمس شعاعا مؤمنا كنس صفحات أيامنا مما علق بها من أدران الحياة وفجر منابعا صافية تشربت منها زروع جبن بالحب والعلم والإيمان والثورة توردت من إثرها وجوه الكادحين الذين لم يكن بمقدور الوجوه المصنوعة من الورق أن ترى معدنها الغالي والنفيس

أصوات ترتجف خوفا وترتعد رعبا ثم تخفت وتكتسي باالشحوب ثم تختنق بعبرات قدت من جحيم

كانت منارات جبن تولول وتدوي في الفضاء ترسل صمتا جريحا ينزف دما يسرق هدأة الليل وسكونه ويترك أثره ندوبا في غرة الزمان وجبين الحياة

أصوات أشبه ما تكون باالعويل ينحر طمأنينة المكان ويذبح ديمومة الزمان

راح الأصدقاء والأحباب يهبطون عوالم الوحشة والرهبة ويتوغلون في الظلام ليلجوا أبواب مدينة خربة مهجورة ظلامها يمزق القلب ويمس بالجنون

لحظات تبكي ذاتها قبل أن تبكي أفول القمر وهروب الشمس من حياتنا الآثمة وحلمنا المتآكل

كان غيابا يدين إنهزامنا ويكشف أقنعتنا وزيف وجوهنا

رحيله يطلق سخرية في ترفع وعفة من تدافع الناس نحو الدرك الحضيض

غادر عبد الباري وغادر الطهر معه مخلفا ورائه زمن السقوط في الغرائز

غابت الشمس قبل إكتمال النهار لتفضح قبح حالنا وعدم أهليتنا لنور الهداية وأريج الياسمين المنساب من كؤوس العز والأمل والألق

حلمت الدنيا أن يكون زعيمها فكان له أن يفسر حلمها وراح يقوم بتأويل الحلم خطوة خطوة

تستحضرني بعض من حكاية الزمن الأول حينما هبط إلى وسط أولاد حارتنا وغرستهه مشيئة الله قبالة بيوته لتحرسه منارات الهدى فيصير رديفا لها

فراح ترافقه عناية الإله يمارس دوره في تأسيس مملكة الحلم وصار يمتد نفوذ القائد إلى كل الحارات

وحينها يبدأ مبكرا في تمثل القيم التي رضعها مع حليب أمه غضا طريا ويصبغ عليها والده لباسا من هاشم وبريقا من سيف علي

عمد الطفل الرجل التحليق في سموات الحلم ويطلق لخياله العنان في رسم مشهد درامي للصراع بين الحق والباطل ليفتح لذاته نافذة ينصر من خلالها قيم الخير والإيمان

ويذهب خياله في خلق شخصية السكران ويسقطها على أحد أولاد الحارة كان شكله مناسبا لتحمل أعباء هذا الدور

ويبدأ القائد في إستدعاء جنوده وأنا الذي كنت فيهم أحضى بحمايته

كل واحد عرف دوره وأوكل إلي دور المشاهدة فقط فأنا إبن عم الزعيم

أستكملت الخطة نظامها ودبر الكمين للسكران البريء

وهوالطفل الذي لم يتجاوز عمره حينها العاشرة

إستقبل وجهه اللكمات جزاء وفاقا لتقاسيم وجهه الكسول حدا يشبه السكران

أهله ذلك لأن يصير ميدانا يتدرب عليه أسد الله على ممارسة مبكرة لمستقبل قادم ينتظره في محاربة الشر ومقارعة الباطل وأعوانه

لنا لقاء آخر والسلام

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي