الرئيسية المقالات مدارات الصحفيون وربيع الثورات العربية
الصحفيون وربيع الثورات العربية
محمد الغباري
محمد الغباري

مدخل ....

شكل انطلاق ربيع الثورات العربية في يناير الماضي، من تونس وامتداده إلى مصر ومن ثم ليبيا واليمن والبحرين وسوريا، واقعاً مختلفاً على كافة المسارات السياسية والإعلامية في المنطقة، كانت آثاره وما تزال حاضرة وستمتد إلى ما بعد هذا الربيع.. ولأن الإعلام بمكوناته التقليدية والجديدة، كان شريكاً في صناعة هذا الواقع، فإنه حصل على قسط كبير من الانصاف، وبالقدر ذاته تلقى نصيبه من القمع والتنكيل والتشكيك.. حيث وأن هذا الواقع بما تميز به من عمومية المشاركة، في صناعته من قبل شريحة اجتماعية واسعة، تصدرت المشهد السياسي، الذي ظل لعقود طويلة حكراً على النخب السياسية والعسكرية، التي تتحدث بالنيابة عن الشعوب، وتحدد ملامح مستقبلها، وترسم تطلعاتها دون الحاجة إلى استشارتها.. هذا الواقع الذي امتدت رياحه من المغرب إلى المشرق العربي، خلق أيضاً واقعاً مغايراً لعمل الصحافة بكل أنواعها في المنطقة العربية، ولهذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي، وشبكة المعلومات الدولية، إحدى الوسائل الفاعلة في الحشد والتعبئة، وفي تشكيل وعي المشاركين في هذا الربيع، وفي إيصال رؤى ومطالب المشاركين في هذه الثورات إلى الداخل، وكسر حاجز العزلة الرسمي الذي فرض على وسائل الإعلام الدولية ، لمنع تغطيتها لهذا التحول الكبير , ومع ذلك فقد فشلت القبضة البوليسية لنظام حكم زين العابدين بن علي ، في إغلاق تونس أمام الرأي العام العربي والدولي، وبسرعة غير متوقعة تآكل هذا النظام القمعي، وفر زعيمه إلى الخارج.. لقد فشلت محاولات وسائل إعلام النظام البوليسي تصوير زين العابدين على أنه رجل العطف والحنان، عند زيارته "محمد بوعزيزي" في المستشفى ، عقب إحراقه لنفسه احتجاجاً على الإذلال الذي تعرض له من قبل إحدى المجندات، مع أن هذا الشاب قد قبل أن يضع مؤهله الجامعي جانباً، وبحث عن لقمة عيشه من خلال عربة بيع الخضار، لم تفلح كل المحاولات في تغيير قناعة شباب تونس بإمكانية التعايش مع هذا النظام، الذي يبدو وفق مقاييس اقتصادية، أفضل حالاً من أمثاله في مصر واليمن أو حتى ليبيا الغنية بالنفط.. والأمر ذاته حدث في مصر، فقد سَخّر نظام مبارك كافة المحطات الفضائية المملوكة للدولة، والصحف القومية، والإذاعات المحلية، للتقليل من شأن الثورة الشبابية وتسفيه دعواتها، بل وذهب - كما فعل نظام بن علي - لتجميل وسائل الإعلام الدولية مسؤولية تشويه الحقائق وتثوير الشارع، فتم اعتقال الصحفيين والناشطين، وإغلاق المحطات الفضائية، ومنع المراسلين الأجانب من دخول البلاد، إلا أن صوت الثورة وصل إلى كل مكان، وسمعت أصداؤه في صنعاء، والدار البيضاء، وصلالة وصحار في عمان، ودمشق، والمنامة، وتحقق للشعب المصري ما أراد.. تلك مقدمة، أعتقد أنها كانت ضرورية لتكتمل صورة المشهد في اليمن، والذي مضى عليه أكثر من خمسة أشهر وما تزال تفاعلاته مستمرة، تؤثر وتتأثر بالتطورات الحاصلة في سوريا وليبيا، فمن حيث الممارسات تبدو الأنظمة العربية متشابهة إلى حدٍ كبير، في تعاطيها مع الاحتجاجات الشعبية، التواقة إلى الحرية، والرافضة للفساد.. فنظام معمر القذافي يبرر منع وسائل الإعلام الدولية من تغطية الأحداث في بلاده، بعوامل نفسية لدى الشعب الليبي، الذي ينظر إلى الصحافيين الأجانب باعتبارهم عملاء للاستخبارات.. والحال لا يختلف لدى نظام بشار الأسد، الذي يقول إن وسائل الإعلام التابعة للقوى الصهيونية تختلق المظاهرات والاحتجاجات، في حين أن الأمر لا يقتصر على مجموعة من العناصر الخارجة عن القانون -تقول وسائل إعلام النظام- إنها تقوم بصورة متواصلة بقتل أفراد الجيش والأمن، ودفنهم في مقابر جماعية.. ورغم فرار أكثر من عشرة آلاف مدني سوري إلى تركيا، إلا أن دمشق ترفض حتى اللحظة السماح للصحفيين ووسائل الإعلام الدولية بتغطية الأحداث هناك، وتتمسك برؤيتها القائمة على أن الأوضاع مستقرة في سوريا، وتقول ان هناك مؤامرة دولية تستهدف مواقفها القومية , ولا تكل تردد انه إذا وجد من تقول انهم عشرة أو خمسون شخصاً، فإنهم لا يمثلون 23 مليون سوري، متمسكين بزعامة الأسد الابن، وهي المقولة التي سبق وأن رددها القائمون على وسائل الإعلام العامة في اليمن وفي مصر وفي ليبيا..  اليمن.. السير فوق الأشواك مع بداية الاحتجاجات الشبابية في اليمن التي استلهمت التجربتين التونسية والمصرية، كانت غالبية عظمى من الصحفيين والسياسيين تعتقد أن هذه الحركة الصغيرة لن تتوسع، لتصبح ثورة شاملة وقوية، تسير على خطى ما حصل في تلك الدولتين العربيتين ، رغم ان المتابعين للاحداث من خارج اليمن كانوا اكثر عمقا في قراءة المشهد السياسي والتحولات الاجتماعية , فقد رشحوا اليمن لتكون البلد الثالث التي تطيح الثورة الشعبية فيها برئيس الدولة ، , لكن عوامل ثلاثة كانت تقف حائط صد أمام التفاؤول بإمكانية حدوث ذلك عند كتابة التحليلات والتقارير الصحفية عن الحالة اليمنية ... وهذه العوامل هي: الواقع السياسي الذي لا تزال الأحزاب السياسية تشكل فيه الثقل الرئيسي في الحركة والفعل، وأحزاب المعارضة لم تكن حينها قد قررت اختيار نهج إسقاط النظام كتوجه لإعادة بناء الدولة الجديدة، كما أن الواقع الاجتماعي بتركيبته القبلية، ونسبة تفشي الأمية، وضعف استخدام وسائل الاتصال الحديثة، واحتكار وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، باعتبارها الأكثر قدرة على التأثير والوصول إلى التجمعات السكانية في الأرياف، والتي تشكل مركز الثقل السكاني الأساسي.. أضف إلى ذلك غياب التركيبة الوطنية عن مؤسسة الجيش والأمن.. وفي تقديري ان هذه العوامل كلها لم تعط المتابعين فسحة للتفاؤل , ولكن مع هذا تحركت عجلة الثورة الشبابية بصورة غير متوقعة .. لقد كان الخبر الأبرز والمنطلق للاهتمام بهذه الاحتجاجات هي دعوة أحزاب اللقاء المشترك لاعتصامات سلمية في العاصمة يوم 3 فبراير، اذ انه وحينها تمكنت هذه الأحزاب من جمع عشرات الآلاف من أنصارها في ثلاث مناطق داخل العاصمة , وقد تزامنت هذه الاعتصامات مع تراجع الرئيس علي عبد الله صالح عن التوجه نحو تعديل الدستور لالغاء المدد الزمنية للولاية الرئاسية وتاكيده انه لن يورث الحكم.. ومع ان هذه الاعتصامات وإن لم تكن ترفع شعار إسقاط النظام، وكانت تستهدف إسقاط مشروع التعديلات الدستورية المقترحة من الحزب الحاكم، إلا أنها اكتسبت أهميتها من كونها أكبر تجمعا للمعارضة، ولأن الحزب الحاكم فشل في حشد عدد مقارب لهذه الحشود، وحينها تصدرت أنباء الاعتصامات المعارضة مختلف وسائل الإعلام الدولية ..   لم تكن هذه الاعتصامات كافية للحديث عن ثورة شبابية، لأنها كانت ملتزمة بتوجهات تكتل اللقاء المشترك المعارض والتي لا تتجاوز المطالبة بالغاء التعديلات الدستورية التي تتيح المجال للرئيس صالح كي يبقى في السلطة مدى الحياة , ولان هذه الاعتصامات كانت ملزمة بتوقيت زمني من العاشرة إلى الثانية عشرة ظهراً، لكن ومع كل هذا فان حجم التغطية التي لقيتها هذه الاعتصامات قوبلت بغضب وعدم ارتياح من جانب السلطة ، التي سعت للتقليل من أهميتها وسعت من خلال ممارسة الضغوط على عدد من المراسلين، الى وقف الصور التلفزيونية التي تبث لتجمعات أنصار المعارضة، بل وصل الأمر إلى أن قام التلفزيون الحكومي بتزويد بعض المراسلين بصور تلفزيونية لحشود من أنصار الحزب الحاكم، يقول المسئولون عنه إن هؤلاء المراسلين تجاهلوها، مع أنه لا يوجد ما يؤكد أن هذه المشاهد حقيقة ، أو أن الصحفيين قد تجاهلوها.. ومع تنامي حركة الاحتجاجات والتي كانت في الغالب تحاكي النموذج المصري، من خلال الخروج في تظاهرات يشارك فيها المئات ثم الآلاف بهدف الوصول إلى ميدان التحرير، واعتراض هذه المسيرات من قبل قوات الأمن، ومن ثم من قبل أنصار الحزب الحاكم، والذين عرفوا فيما بعد بالبلاطجة، بدأت الحركة الاحتجاجية في أخذ مكانها في قائمة اهتمامات وسائل الإعلام الدولية، لكنها أيضاً وضعت الصحفيين في موضع الاستهداف من قبل مؤيدي نظام الحكم, فقد شهدت هذه المسيرات في بدايتها نزعة عدوانية من قبل افراد الامن الذين نزلوا الى الشوارع بلباس مدني وكانت الكاميرات اول الاهداف المقصودة .. وإلى حين اتخاذ مدخل جامعة صنعاء مقراً للاعتصامات المستمرة حتى اليوم، كانت هناك احتجاجات واعتراضات قوية على اداء المراسلين وتغطيتهم لسير الاحداث غير ان هذه الاعتراضات وخصوصا من جانب انصار المعارضة او نشطاء الحركة الاحتجاجية لم تصل إلى حد الاعتداء ، اذ ان الشباب الثائر، كان يغضب بقوة من استخدام وسائل الإعلام الخارجية مصطلح أنصار الحزب الحاكم بدلاً عن البلاطجة، عند الحديث عن الاعتداءات او الهجمات التي تعرضت لها المسيرات او تجمعات المطالبين باسقاط النظام , وقد عبر عن هذا الموقف من خلال العتاب الشخصي المباشر ، أو عبر الرسائل القصيرة، أو من خلال بعض المقالات، لكنها في المجمل لم تغادر مربع النقد المقبول، حتى وإن وصل هذا الامر في بعض الأحيان إلى حد اتهام بعض المراسلين بالعمالة لأطراف في السلطة.. أما على الجانب الآخر وهو جانب السلطة ، فإن التلويح بسحب تراخيص العمل، وإغلاق مكاتب المحطات التلفزيونية، أو الوكالات والصحف، ربما يكون أخف ما تعرض له الصحافيون طوال هذه الفترة .. لقد كان عن الحديث عن البلاطجة , وعن رجال امن بزي مدني بدلا عن اتباع الحزب الحاكم سببا كافيا لاستفزاز كل مراكز السلطة ضدك ، ولهذا فان الاتصالات التليفونية التي تحمل التهديد أكثر من العتاب، إلى جانب الرسائل والمكالمات مجهولة المصدر، كانت مقدمة لما تبعها بعد ذلك من اعتداءات وأساليب لإرهاب الصحفيين وجعلهم تحت سلطة الرقابة الذاتية ، ان الامر حين يصل إلى التهديد بخطف أطفالك، أو بإرسال مسلحين لملاحقتك، وحصار منزلك، حينها تصبح حياتك وحياة اسرتك , وليس قلمك فقط هي المطلوب الأول, وقد كانت هناك شواهد كثيرة على هذه الممارسات .. ولمرات عديدة استهدف الصحفيين وكاميراتهم، وحتى الهواة كانوا هدفاً لقناصة مجهولين ومعلومين ، ولم تفرق هذه المجاميع بين الجنسيات، فقد طورد الصحفيون يمنيون وأجانب، وحوصروا داخل إحدى البنايات، في شارع الزبيري لعدة ساعات، قبل أن يتمكنوا من الفرار، عبر بناية مجاورة، وهو ما يشير بجلاء إلى أن هناك توجهاً رسمياً لمنع وسائل الإعلام الخارجية تحديداً، من نقل حقيقة ما يعتمل في الشارع، لأن أنظمة الحكم العربية بشكل عام تخشى من الإعلام الخارجي والرأي العام الدولي، أكثر من خشيتها من الرأي العام المحلي.. كانت المبالغة المحسوسة من قبل السلطات إزاء الدعوات المتواصلة للتظاهرات واعداد المشاركين فيها ، ومن ثم النزول إلى الشارع باعداد كبيرة، تعكس تقديرات متوقعة من قبل الاجهزة الامنية لهذه الحركة ومستقبلها , ولكنها في الجانب الاخر عكست غياب التقديرات الموضوعية لدى الصحفيين، وحتى لدى النخبة السياسية ، فقد اتضح فيما بعد أن مخاوف السلطات من دوران عجلة الثورة الشبابية كانت صائبة إلى حد كبير، ومع هذا الدوران تراجع السؤوال المتواصل الذي واجهه المراسلون تحديداً، من قبل مختلف وسائل الإعلام: لماذا يتظاهر اليمنيون صباحاً فقط ؟ ولماذا لا يستمرون في الاعتصام كما حدث في مصر مثلاً ؟ وما تاثير القات على مستقبل الحركة الاحتجاجية .. لقد ادى تسليط وسائل الإعلام الضوء على الوضع في اليمن، والغوص في تفاصيل المشهد السياسي بتفرعاته الاقتصادية والاجتماعية، الى زياد ة حفيظة السلطة ، التي بدأت ترصد كل عبارة، وتفسر كل كلمة , ولهذا وضعت أولاً قائمة سوداء بعدد من الصحفيين الأجانب، ومن ثم منعتهم من دخول الأراضي اليمنية، ثم امتد الأمر إلى ترحيل من كان منهم متواجداً فيها، فرحلت صحفية في الواشنطن بوست، ومراسلي قناة الجزيرة، أحمد زيدان وعبدالحق صداح، ومصور في تلفزيون رويترز، وتمت إعادة آخرين من مطار صنعاء, ومايزال الباب موصد اما الراغبين في القدوم الى اليمن حتى اللحظة .. في مقابل هذه الإجراءات تم تكثيف الرقابة على هواتف الصحفيين، ورصد تحركاتهم، ووصلت التدخلات ان قام بعض المسئولين بطلب من بعض المراسلين عدم إجراء حوارات مع شخصيات محددة من معارضي النظام، وكل هذه السلوكيات توجت بقرار إغلاق مكتب قناة الجزيرة، وإلغاء التراخيص الممنوحة لمراسليها، والحجة أنها لم تكن محايدة أو مهنية في تغطيتها للإحداث.. مع انه ووقت اتخاذ من هذا القرار بالذات، كانت القناة تواجه بانتقادات شديدة من نشطاء ومواطنين عاديين بسبب تغطيتها للاحداث في اليمن ، وقالوا إنها لم تكن بمستوى ما تم في مصر، حيث أوقفت كل برامجها وكرست بثها لنقل تطورات الوضع هناك، وقد وصل هذا النقد إلى قيادات في المعارضة، وأتذكر جيداً أن أحدهم قال لي :" لا بد أن يكون للجزيرة موقفاً مماثلاً لموقفها في مصر".  التوازن المرفوض   في حالة الثورة الشعبية التي شهدتها عدة بلدان عربية، يقف الصحفي في منطقة ضيقة جداً، ويجد نفسه محاصراً بمقتضيات العمل المهني المحايد، والعمق الاجتماعي الذي يرتبط به، لأن الأمر لا يتعلق بمواجهة مسلحة بين طرفين، سواءً كان هناك طرف داخلي وآخر خارجي، أو حتى في وضع حرب أهلية أو مواجهات بين مجاميع مسلحة وأجهزة الشرطة والجيش , ولهذا فان الامر اصبح بمثابة اختبار لقوة الارادة في مواجهة الذات اولا ... وفي هذه الحالة القائمة اليوم لابد من الإقرار أن أنظار وسائل الإعلام تتجه نحو المعارضين للحكم اولا ، لأن خروجهم إلى الشارع يعكس قدرتهم على تحدي مخاطر كبيرة، قد تكون الاعتقال أو القمع، أو القتل كما حدث في أكثر من حادثة لدينا في صنعاء وتعز وعدن واب والحديدة والبيضاء وذمار وحجة ، ولهذا فأن مختلف المراقبين ينظرون للمجاميع التي تحشدها السلطات على أنها لا تقدم جديداً يمكن الالتفات إليه، لأن الحكم لديه وخصوصاً في البلدان العربية إمكانات الدولة وسلطاتها، وحتى الوظيفة العامة ومدارس التعليم وهو غالبا يستخدم هذه السلطات والمؤسسات لدفع الناس على التجمع أو لإجبارهم على فعل ذلك لاظهارتاييدهم له والقول انه يمتلك تاييدا شعبيا مماثل او اكثر من معارضيه, وهذه الحالة شهدناها في اليمن وفي سوريا وفي ليبيا لكنها لم تكن ولن تكون محط اهتمام وسائل الاعلام .. وقد كانت هذه القضية وماتزال مثار جدل مع الجانب الحكومي، الذي يتهم وسائل الإعلام بعدم الموضوعية , وعدم الالتفات لمخيمات أنصاره أو احتشادهم للصلاة، رغم ان هذه الوسائل غالبا ما تشير في كافة تقاريرها إلى وجود هؤلاء، لكن مالم يستطع المسئولون ادراكه هو أن مهمة وسائل الاعلام ليس إقرار ما هو قائم، ولكن التركيز على ما هو غير مألوف أو متوقع..  حرب على كل الجهات بدخول الاحتجاجات مرحلة متقدمة وعقب أحداث جمعة الكرامة في الثامن عشر من مارس تسلمت الأجهزة الأمنية بصورة مطلقة وكاملة مهام وزارة الإعلام، وتم تشكيل لجنة ثلاثية تضم كل من وكيل وزارة الإعلام، وعبده بورجي السكرتير الصحفي للرئيس علي عبدالله صالح، ومساعده فارس السنباني، وأوكل لهذا الفريق مهمة تحديد قوائم الصحفيين الأجانب الذين يسمح لهم بدخول البلاد من عدمه، وأوكل إلى هذه اللجنة مهمة اختيار نوعية العقاب الذي ينبغي اتخاذه في حق الصحفيين المحليين والأجانب الذين لا تتفق تغطياتهم الصحفية مع توجهات نظام الحكم , فكان اهم قرار تتخذه هذه اللجنة هو قرار إغلاق مكتب قناة الجزيرة , وذلك يمثل أحد أبرز العقوبات المتخذة ضد وسائل الاعلام الخارجية , كما لجات اللجنة الى التهديد بسحب تراخيص عدد من المراسلين بينهم مراسل لوكالة رويترز.... وبالتوازي مع عمل هذه اللجنة التي أنيط بها مهمة مراقبة اداء وسائل الإعلام الخارجية صعدت أجهزة الأمن من حملتها ضد الصحف المحلية وتحولت إلى جهة رقابة وعقاب أيضاً، فبعد الاختطافات والاعتقالات والتهديدات , قامت النقاط الأمنية في مداخل ومخارج العاصمة بمصادرة وإحراق أعداد متواصلة من صحيفة الأولى بلغت 21 مرة خلال شهر واحد، كما طالت المصادرة والحجز صحف المصدر والوسط وأخبار اليوم والأهالي والنداء والديار والوحدوي والامناء... واستمرت هذه الأجهزة في هذا الفعل غير القانوني حتى اللحظة، وهو أمر دفع بعدد كبير من الصحف إلى التوقف عن الصدور، لأن الخسائر المالية الكبيرة التي لحقت بها جعلتها غير قادرة على الاستمرار، خصوصاً وأن المساحة الإعلانية التي كانت تحصل عليها هذه الصحف وهي في الغالب صحف مستقلة قد توقفت بفعل الخسائر التي لحقت بالقطاع الخاص، والأزمة الاقتصادية التي دفعت بعض الجهات الحكومية إلى وقف الاعلانات المناسباتية التي كانت تحصل عليها بعض هذه الصحف... الزملاء في وسائل الإعلام المملوك للدولة بدرهم دفعوا ثمنا ربما يكون الاكثر في سبيل مواقفهم المنحازة للحركة الشبابية ، فهناك العشرات مهددون بالفصل من عملهم في الفضائية اليمنية وآخرون قطعت مرتباتهم في وكالة الأنباء اليمنية سبأ وصحيفة الثورة وهم اليوم يواجهون نفس المصير اذا لم تكن للاسرة الصحفية وقفة جادة لمنع مثل هذا الفعل غير المسبوق حتى ابان التشطير حيث كان المعارضون سياسيون او صحافيون يعتقلون او يطردون من اعمالهم لكن مرتباتهم لم تكن تمس بالمطلق .. إن المشهد اليوم يبدو قاتما على كافة الاتجاهات ويظهر أنه كلما طال امد الأزمة السياسية , كلما دفع الصحفيون العاملون في وسائل الاعلام المحلية والدولية ومعهم الصحف ثمناً باهظا لهذا الوضع , لأنهم في نظر السلطات سببا في تصاعد النقمة الشعبية على الحكم , ومسئولون عن هذا الوعي الجمعي الذي تشكل في مختلف مناطق البلاد وفي العالم تجاه الحالة اليمنية .. والصحفيون في حالتهم هذه لا يواجهون وضعا مغايرا لما هو حالهم في كل الاوقات , والمنعطفات السياسية والاقتصادية ، ففي كل الأزمات والصراعات دائما ما يدفع هؤلاء ووسائل الإعلام الحرة والمستقلة ثمن التزامها بنقل الحقائق كما هي وعدم الانحياز لطرف من الأطراف أو الرضوخ للإغراءات والإملاءات.. غير أن ما هو بارز في الواقع القائم اليوم لدينا هو العاصفة التي دفعت بعدد كبير من الصحف إلى التوقف، والاتجاه نحو استخدام أساليب أكثر عنفاً عند محاولة الصحفيين والصحف ملامسة جوهر الأزمة السياسية، وتداعيات الأزمة الإنسانية التي يدفع الملايين ثمنها يومياً، من الجوع والبطالة وانعدام الخدمات الأساسية، أو قد يكون الثمن في بعض الاحيان حياة الابرياء كما هو حال المرضى الذين فقدوا أرواحهم لانعدام الكهرباء من المستشفيات التي يعالجون بها. لقد تم اختطاف عدد من الصحفيين، ونفذت عمليات اقتحام لبعض مكاتب المحطات الفضائية والصحفية ، وهناك حديث متواصل عن مخطط لتصفية صحفيين رفضوا أو قاوموا التهديدات أو تجاوزوا ما تسمى بالخطوط الحمراء... إن من شان مثل هذا التطورات ان تؤدي في أحد جوانبها إلى حرمان جمهور كبير من الناس من الوصول إلى حقيقة ما يعتمل في الساحة السياسية والاقتصادية على اعتبار أن السلطة ما تزال تحتكر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ولأن استمرار قطع خدمة الكهرباء لا يسمح لهذا الجمهور بالحصول على المعلومة من مصادر مستقلة، ومن شأنها في جانب آخر أن تزيد من المخاطر التي تحيط بالصحفيين العاملين على تغطية الأحداث في اليمن، وتجعلهم في حالة هي أقرب إلى حالة العراق وأفغانستان واللتان تصنفان كأخطر البلدان لعمل الصحفيين في العالم.. إن الأسرة الصحفية تواجه اليوم أصعب التحديات وإذا لم تتكاتف جهود هذه الأسرة تحت مظلة نقابة الصحفيين مهما كانت الملاحظات على أدائها خلال المرحلة الماضية للتصدي لهذه الانتهاكات ، فإن حجمها سيتصاعد أكثر مما هو عليه الآن. إننا مطالبون بتوسيع تحالفنا مع المنظمات والهيئات الحقوقية المحلية والعربية والدولية لتشكيل سياج واقي يخفف من الهجمات المتواصلة التي تستهدف الصحفيين والصحف وتعمل على حجب الحقائق عن الرأي العام في الداخل والخارج.

*ورقة قدمت في ندوة لنقابة الصحفيين "التغطية الصحفية في الاجواء غير الآمنة"

إقراء أيضا