بقلمه الرشيق وفكره العميق تناول الاخ محمد الهيصمي بمداخلة في ساحة الحرية إب ثم بمقال في صحيفة الاولى ذكرى الربادي جاعلا مشروع الربادي كامتداد او كمراجعة لمشروع الحمدي .
لقد كان ما قاله الهيصمي جميلا ورائعا في مجمله الا ان حديثه عن مشروع الحمدي اكتنفه الكثير من التشويش وعدم الفهم ، وهذا شيء طبيعي فالهيصمي كما يبدو لم يطلع كثيرا ا و يقرأ عن فترة الحمدي ، واكتفى بالثقافة السماعية عنها – وهذا حال ا لكثير من جيلنا – فلو كان مطلعا على حقيقة تلك الفترة لما وصف مشروعه بالاقصائي الذي افضى لاقصائه من الحياة ، بل لما وصفه بانه اقصى جزءا مهما من الهوية اليمنية ( القبيلة ) .
وهنا نسأل هل يمكن لاي مشروع ان ينجح بدون هوية او مراعاتها ؟ ! . . خاصة ان الهيصمي وصف مشروع الحمدي " بالحلم الجميل " ، فاي حلم بدون هوية ، باعتبار الحلم تعبير صادق عن تطلعات الهوية .
هنا ساركز على فقرة وردت في مقال الهيصمي بخصوص الحمدي وهذه الفقرة هي " مشروع الحمدي لم يقدم حلول لاشكالات متعلقة بالهوية والثقافة ، بحيث مارس اقصاء على القبيلة او ( القبيلة ) كمكون من مكونات المجتمع اليمني وثقافة من ثقافاته وجانب مهم من هوية شريحة كبيرة منه ، بدلا من احتوائها وادماجها .... كان اقصاء الحمدي لمكون من مكونات الهوية تحديدا (القبيلة ) كثقافة خطأه الوحيد والقاتل " انتهي .
هذه الفقرة جميلة الصياغة رصت كلماتها بانامل فنان ، اعطى مظهرها انطباعا بعمق معناها ، الا ان حقيقة معناها ينم عن جهل طافح بفترة الحمدي ومشروعه ، فالهيصمي ينظر– ربما بحكم اهتمامه الفكري الفلسفي – الى مشروع الحمدي على انه مشروع فلسفي تنظيري خانه الاهتمام بالهوية ، ولم يدرك الهيصمي ان مشروع الحمدي في حقيقته تنموي تطويري لمجتمع متخلف يمتلك هوية واضحة المعالم ، أي انه مشروع عملي منزه من خيالات المنظرين المريضة ، وان كان لمشروع الحمدي اساس فلسفي لا ينكره احد قائم على مفهوم العدالة الاجتماعية ( بمفهومها الانساني والتنموي ) . .. هنا تكمن عظمة مشروع الحمدي .. فالحمدي قائد دولة وليس ماركس او هيجل .
فهل كان الشعب يعاني من اشكالات الهوية والثقافة ؟ ام يعاني من اشكالات التخلف والجهل ؟ ! .
اليمني يعرف ذاته ( هويته ) جيدا انه يمني عربي مسلم ، لكنه متخلف جاهل ، وهنا تكمن الاشكالية وليس في الهوية التي يمكن تعريفها ببساطة بعيدا عن التفلسف والكلمات الرنانة بانها ( مجموع الصفات الجسمية والثقافية التي تميز مجموعة من البشر عن المجموعات الاخرى ) .
لقد فهم الحمدي اشكالية المجتمع اليمني ( التخلف والجهل ) فانطلق مشروعه " الحلم الجميل " .
فهل اقصى ذلك المشروع الجميل القبيلة كمكون من مكونات الهوية اليمنية كما ادعى الهيصمي ؟
الجواب بكل تاكيد لا .. لا واليكم الدليل :
اقصاء القبيلة في اليمن ليس له الا معنى واحد هو اقصاء الشعب اليمني كله كون ابناء اليمن كلهم قبائل ، ومعلوم كحقيقة تاريخية ان الشعب اليمني لم يكن شريكا للنظام وفاعلا في دوره التنموي عبر تاريخه الطويل القديم والحديث كما كان في عهد حكم الشهيد الحمدي وذلك عبر :
لجان التصحيح المالي والاداري : وقد شارك فيها كل ابناء الوطن بمختلف مشاربهم الفكرية والحزبية ( اخوان – اشتراكي – ناصري – بعث – مستقلين ... ) ، وكان دورها هذه اللجان هي الرقابة الشعبية على اداء الحكومة .. مما مثل اكبر عملية شراكة شعبية عرفها تاريخ اليمن لمحاربة الفساد المالي والاداري .
لقد كان العشب اما فاعل تنموي عبر التعاونيات او رقيب شعبي في لجان التصحيح المالي والاداري ، مما قزم دور الدولة في التنمية ( امام التعاونيات ) ، وسلطتها ( امام لجان التصحيح ) ، هذا على الرغم ان الحمدي كان يسعى لتشييد بناء الدولة المركزية الحديثة . .. وهنا تكمن العبقرية الادارية للحمدي . .. حيث استطاع الجمع بين المتناقضين ( المركزية – المشاركة الشعبية ) وتوظيفهما توظيفا مثاليا لتحقيق اهداف مشروعه الوطني .
الهيصمي معذور فيما قال وكتب لانه لم يستطع التمييز بين مفهوم القبيلة والشيخ ولو من الناحية التعريفية ( فالشيخ فرد والقبيلة مجموعة افراد ) فاعتبر اقصاء بعض مشائخ اليمن هو اقصاء للقبيلة ، وهذا خطأ منهجي ما كان لكاتب مثل الهيصمي الوقوع فيه فاقصاء الشيخ عبد الله بن حسين الاحمر لم يكن اقصاء لحاشد القبيلة ، لان المشائخ الذين اختاروا اقصاء انفسهم ونأوا بها عن مشروع الحمدي ، اوجبوا على الحمدي اقصاءهم كضرورة علمية وواقعية لنجاح مشروعه ، اما المشائخ الذين قبلوا برضى مشروع الحمدي وعملوا من خلاله على خدمة وطنهم فقد كانوا يحتلون المناصب والمكانة الرفيعة سواء على مستوى الدولة او ا لتعاونيات او لجان التصحيح المالي والاداري .. فقاموا بالمهمة خير قيام في كل محافظات الجمهورية من تعز الى صعدة ومن الجوف الى الحديدة ..وانجاز التعاونيات خير دليل على ذلك .
واذا كان الهيصمي يقصد ان الحمدي اقصى القبيلة كمكون سياسي ( دولة داخل الدولة ) فهذا صحيح ، لان القبيلة كمركز نفوذ سياسي يحتم سطوع نجم الشيخ ، وغياب القبيلة كمون اجتماعي وثقافي واخلاقي ، وهذا يتناقض مع مشروع الحمدي ، فعمل الحمدي على اقصاء القبيلة كمركز نفوذ سياسي يعرقل التنمية ويغيب قيم القبيلة الاخرى .. لذلك ابرز الحمدي الدوري الاجتماعي والثقافي والاخلاقي للقبيلة ، فخفت نجم الشيخ ، فحسبه الهيصمي اقصاء للقبيلة ، ولكي يتضح الامر اكثر نجد نظام علي صالح عمل على تكريس النفوذ السياسي للقبيلة فبرز دور الشيخ صارخا ، وغابت ا لقبيلة بقيمها وثقافتها وتحول القبيلي من ناصر للمظلوم الى قاطع طريق .. بل واصبحت الدولة تدار بعقلية القبيلة السياسية ، فثار الشعب بما فيه القبيلة على هذا النظام ، وارتفعت صور الحمدي فيها بالقدر الذي مزقت صور علي صالح ، كاستفتاء شعبي – بعد اكثر من ثلاثة عقود - على مشروع الحمدي ورضى الشعب عنه ، وحتى القبيلة يا اخي محمد رفعت وترفع صور الحمدي طامحة بعودة مشروعه الذي رجمته بتهمة الاقصاء دون علم ومعرفة .
اما اللمسات الراقية لمشروع الحمدي في جانب الفكر والثقافة واعادة صياغة الهوية اليمنية صياغة عصرية حديثة ، فما على المراقب الا ان يرهف سمعه لاغاني واناشيد ايوب التي ربطت حب المرأة بالارض بالشجر ، يرهف سمعه للآنسي وهو يغني شجروها شجروها ، على المراقب ان يطوف بنظره ليجد بناء المراكز الثقافية في كل محافظات الجمهورية لتحتضن الفرق المسرحية والموسيقية ، والى جانبها دور السينما و البث التلفزيوني كادوات عصرية لاعادة صياغة الهوية للانسان اليمني .
لقد كان نقدك يا اخي محمد لمشروع الحمدي اقرب للجريمة من النقد ، لان مشروع الحمدي لم يقصي الهوية للانسان اليمني بل انطلق منها ليعيد صياغتها ويطورها ، ليؤهلها لمواجهة التخلف والجهل . .ارجو منك قراءة فترة الحمدي بعيدا عن الثقافة السماعية التي غرقت بها .