الرئيسية المقالات مدارات وهم الحصانة ...!!!
وهم الحصانة ...!!!
د. عبد الرشيد عبد الحافظ
د. عبد الرشيد عبد الحافظ

أثارت مسألة الحصانة من الملاحقة القضائية للرئيس وأعوانه التي وردت في المبادرة الخليجية الكثير من التساؤلات حول: طبيعة هذه الحصانة وحدودها، وما إذا كانت هذه الحصانة تشمل عدم الملاحقة القضائية من أصحاب الحق الخاص أي المجني عليهم، أم تقتصر فقط على الحق العام، وهل يمكن إلغاء هذه الحصانة في المستقبل أم لا، وهل تسري هذه الحصانة خارج الجمهورية أم لا. هذه كانت أكثر التساؤلات المثارة حول الحصانة، وهي التي سنحاول الإجابة عليها من ناحية قانونية، استناداً إلى النصوص القانونية التي سنوردها كاملة في خاتمة المقال.

1ـ فيما يتعلق بإمكانية سريان هذه الحصانة على الدعاوى التي يمكن أن ترفع من قبل المجني عليهم أو ذويهم؛ فإنه وفقا لأحكام المواد (2، 3، 41، 51) من الدستور، والمادة (8) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما هو معلوم من مبادئ الشريعة الإسلامية؛ لا يمكن مطلقاً أن تسري هذه الحصانة على أية دعاوى يمكن أن يرفعها المجني عليهم أو ذويهم.

2ـ فيما يتعلق بحدود الحصانة التي يمكن منحها: فإنه وفقا لما جاء في قرار مجلس الأمن رقم 2014 لسنة 2011، مقروءًا مع نص البند الثاني من الآلية؛ فإن حدود الحصانة التي يمكن منحها للرئيس وأعوانه لن تتجاوز الحصانة من أية إجراءات انتقامية ضدهم أو ملاحقتهم بمناسبة ممارستهم لمهامهم السياسية العامة لا أكثر، أي فيما يتعلق بحسن سياستهم من ناحية إدارية لأمور الدولة من عدمها فقط. ولن تشمل الحصانة أية أفعال يتم تكييفها على أنها جرائم سواء في الحق العام أم الخاص.

فعندما ينص قرار مجلس الأمن على أنه يجب الأخذ بتوصيات مجلس حقوق الإنسان بشأن اليمن، ويؤكد القرار على (( وجهة نظر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشأن عدم منح أية حصانة لضمان المحاسبة الكاملة )). وعندما تأتي الآلية لتقرر بكل وضوح وصرامة في البند الثاني منها بأن (( يعتمدان [أي الطرفان] هذه الآلية على أساس مبادرة مجلس التعاون الخليجي بما يتفق كلياً مع قرار مجلس الأمن للأمم المتحدة 2014 (2011 ))؛ فمقتضى هذين النصين أنه لا يمكن الحديث مطلقاً عن وجود حصانة من أي نوع سواء فيما يتعلق بالحق العام أم الخاص، وأقصى ما يمكن منحه من حصانة بالتطبيق الدقيق للمبادرة والآلية، لن تتجاوز بحسب نصوصهما ما ذكرناه آنفاً.

3ـ فيما يتعلق بإمكانية إلغاء هذه الحصانة إذا ما تم منحها، فينبغي التأكيد أنه من وجهة نظر قانونية، لا توجد ـ ولا يمكن أن توجد ـ وسيلة أو حيلة قانونية تحول دون إمكانية إلغاء هذه الحصانة في المستقبل، أي يمكن لأي سلطة تشريعية أو تأسيسية قادمة أن تلغي هذه الحصانات تماماً.

4ـ فيما يتعلق بسريان الحصانة خارج الجمهورية: فإنه وفقاً للمادة (27) من نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية وغيرها؛ فإن أية حصانة قد تمنح للرئيس وأعوانه سينحصر أثرها في داخل البلاد، أما في الخارج فلن يكون لها ـ بطبيعة الحال ـ أي أثر في إمكانية ملاحقتهم هناك بأي صورة من الصور.

5ـ بقراءة النصوص التي أشرنا إليها سابقاً المتعلقة بالحصانة مع ما ورد في البند (12 ـ ح) من الآلية، الذي أوجب ((اتخاذ خطوات ترمي إلى تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، والتدابير اللازمة لضمان عدم حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني مستقبلاً)). فمقتضى تطبيق هذا الحكم ألا تتم مناقشة مسألة الحصانة إلا بعد انعقاد المؤتمر الوطني وليس قبل ذلك، أما إذا تم إقرار الحصانة قبل انعقاد المؤتمر الوطني فإن ذلك سيعيق تحقيق العدالة الانتقالية، وستصبح حينئذ بلا معنى، وهذا أمر في غاية الخطورة.

وبعد ذلك ينبغي التأكيد على المبادئ القانونية والملاحظات الهامة التالية:

1ـ أنه لا يمكن مطلقاً أن تمنح الحصانة إلا لأفراد محددين بذواتهم وأسمائهم، وهناك استحالة منطقية (من ناحية قانونية) لمنح الحصانة بالصفة؛ لأن صفة كون الشخص عمل مع الرئيس يمكن أن تشمل عدداً غير محدد لهؤلاء، وهو ما لا يمكن قبوله قانوناً، حيث يمكن أن يصل هؤلاء إلى عشرات الآلاف بل ومئات الآلاف، من الرئيس وحتى أدنى موظف في السلك الإداري، المدني والعسكري.

2ـ إن منح الحصانة لا بد وأن يترتب عليه خروج نهائي لمن مُنح هذه الحصانة من الحياة السياسية، ولن يكون بإمكانه في المستقبل أن يتولى أية مهام رسمية، سياسية أو إدارية، في أي من سلطات الدولة: التنفيذية أو التشريعية أو القضائية. فلا يمكن أن تعطى حصانة لشخص اعترف ضمنا ـ بقبوله هذه الحصانةـ بارتكابه لأفعال توجب الملاحقة القضائية، وتم المنّ عليه بهذه الحصانة، ثم تتاح أمامه فرصة ممارسة عمله بعد ذلك، بعد أن وصم نفسه ـ بنفسه ـ بارتكاب هذه الأفعال، وأقلها الاعتراف بسوء إدارته.

3ـ إن أعضاء مجلس النواب بمقتضى ما تمليه عليهم عقيدتهم الإسلامية وضميرهم الإنساني، وبموجب الدور الذي حدده لهم الدستور في المادة (75) سيكون لهم الحق الكامل في مناقشة وقبول أو رفض الحصانة، ولا يمكن لأي جهة أن تملي عليهم رأياً مسبقاً في هذا الشأن، أو أن تجبرهم على مخالفة عقيدتهم الدينية، أو خيانة ضميرهم الإنساني، والتزامهم الأخلاقي.

4ـ إن منح حصانة تتجاوز ما أشرنا إليه في هذه المقالة سيكون مخالفة صريحة وواضحة للآلية التنفيذية للمبادرة، ولا يمكن لأي قضاء نزيه إلا أن يحكم بعدم دستورية أي قانون يمنح مثل هذه الحصانات.

5ـ إن قبول شخص لهذه الحصانة (فضلاً عن طلبها) لا يعني إلا أن هذا الشخص قد افتقد كل قيمة أخلاقية، وأعلن بكل وضوح وصراحة على رؤوس الأشهاد، أنه مجرم، ووفَّر اعترافاً صريحاً بارتكابه لهذه الجرائم، وهي حالة نادرة في التاريخ الإنساني، ستسجل كسابقة تاريخية لا شبيه لها.

ملاحظة: استخدمنا لفظ (رئيس) في المقال مجازاً، فالحقيقة أنه بموجب الآلية أصبح رئيساً مخلوعاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولكن هذا حديث آخر.

ملحق بالنصوص القانونية المتعلقة بالمقال:

1ـ البند (5) من المبادئ الأساسية لاتفاقية المبادرة الخليجية ((أن تلتزم كافة الأطراف بوقف كل أشكال الانتقام والمتابعة والملاحقة من خلال ضمانات وتعهدات تعطى لهذا الغرض)).

2ـ البند (ثالثاً) من الاتفاقية ونصه ((في اليوم التاسع والعشرين من بداية الاتفاق، يقر مجلس النواب، بما فيهم المعارضة القوانين التي تمنح الحصانة ضد الملاحقة القانونية والقضائية للرئيس ومن عملوا معه خلال فترة حكمه)).

3ـ البند (ثانياً) من الآلية، ونصه ((... ويعتمدان [أي الطرفان] هذه الآلية على أساس مبادرة مجلس التعاون الخليجي بما يتفق كلياً مع قرار مجلس الأمن للأمم المتحدة 2014 (2011))).

4ـ البند رقم (9) من الآلية ونصه ((سيتخذ الطرفان الخطوات اللازمة لضمان اعتماد مجلس النواب للتشريعات والقوانين الأخرى اللازمة للتنفيذ الكامل للالتزامات المتعلقة بالضمانات المتعهد بها في مبادرة مجلس التعاون الخليجي وفي هذه الآلية)).

5ـ البند رقم (13ـ ج) من الآلية ونصه ((  تلتزم حكومة الوفاق الوطني بكافة قرارات مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان والأعراف والمواثيق الدولية ذات الصلة)) .

6ـ البند رقم (20) والبند رقم (21 ـ ح) ونصهما (( مع بداية المرحلة الانتقالية الثانية يدعو الرئيس المنتخب وحكومة الوفاق الوطني إلى عقد مؤتمر حوار وطني شامل لكل القوى والفعاليات السياسية بما فيها الشباب والحراك الجنوبي، والحوثيون وسائر الأحزاب وممثلون عن المجتمع المدني والقطاع النسائي، وينبغي تمثيل المرأة ضمن جميع الأطراف المشاركة.

 يبحث المؤتمر في ما يلي: ...

 (ح) اتخاذ خطوات ترمي إلى تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، والتدابير اللازمة لضمان عدم حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني مستقبلاً)).

7ـ المادة (2) من الدستور ((الإسلام دين الدولة))

8ـ المادة (3) من الدستور ((الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات)).

9ـ المادة (41) من الدستور (( المواطنون جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة)).

10ـ المادة (51) من الدستور ونصها ((يحق للمواطن أن يلجأ إلى القضاء لحماية حقوقه ومصالحه المشروعة)).

11ـ المادة (75) من الدستور ونصها (( عضو مجلس النواب يمثل الشعب بكامله ويرعى المصلحة العامة، ولا يقيد نيابته قيد أو شرط)).

12ـ ما جاء في قرار مجلس الأمن رقم 2014 لسنة 2011 ((وأخذا بالاعتبار توصيات [قرارات] مجلس حقوق الإنسان بشأن اليمن في دورته الثامنة عشرة، (A/HRC/RES/18/19) ، فإنه يؤكد الحاجة لإجراء تحقيقات نزيهة ومستقلة وشاملة تنسجم مع المعايير الدولية إزاء الإساءات وانتهاكات حقوق الإنسان المزعومة، مع التأكيد أيضا على وجهة نظر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشأن عدم منح أية حصانة لضمان المحاسبة الكاملة، وبهذا الخصوص يشير مجلس الأمن إلى المخاوف التي أعربت عنها المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة)) .

13ـ جاء في المادة (8) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ((لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها القانون)).

14ـ جاء في المادة (27) من نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية ((يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية. وبوجه خاص، فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيسا لدولة أو حكومة أو عضوا في حكومة أو برلمان أو ممثلا منتخبا أو موظفا حكوميا، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسئولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنها لا تشكل، في حد ذاتها، سببا لتخفيف العقوبة . ولا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص)) .

إقراء أيضا