الرئيسية المقالات مدارات عبدالقدوس المضواحي.. البحر يبتلع الشمس
عبدالقدوس المضواحي.. البحر يبتلع الشمس
حسن العديني
حسن العديني

انه بحر الجنة ..جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، ولئن كان صحيحا ما يعتقده البعض إن الموت يرون نادبيهم وحامليهم على النعوش فليس من شك أن عبدالقدوس المضواحي اندهش وتساءل أهذا أنا ؟ أنا المعلق بين الأرض والسماء، تعطيني الأرض ما لم اطلب أرتجي وتمنحني السماء ما لم أتخيل وأتوقع.

 هو يعرف كم استبسل من اجل قضايا شعبه وآمال أمته. كم ضحى وأعطى وكم يذل وسهر. هو المتواضع الزاهد عن الأضواء وفي عصر شقت السماوات المفتوحة صور وأصوات ضمت أضأل صنوف البشر، لا يعرف ان التاريخ يرصده بمنظار هائل ويصب عليه ضوءه الكشاف ويشير اليه بأصابع المجد مميزا قامته العالية في الموكب السائر على جسور العبور من الخيبة إلى الأمل.

لقد كان تحت الأضواء الباهرة غصباً عنه ورغماً عن مشيئته.

ولكن هل حقا يبصر مواكب المشيعين ؟ وهل يسمعون الألحان الجنائزية او تغتسل أرواحهم بآيات (تبارك ) و (يـــس )وحروفها.

وهل أمكن لعبدالقدوس ان يجمع في وقت واحد بين رؤيه مشهد الوداع المهيب والاستقبال الكثيف,الوداع في خزيمة وماحولها وماجاورها, هنا حيث الجرح النافه والدموع المنسكبة والدماء السايلة والارواح المتوثبة الى المستقبل لم يكن هو عن البشرية والنضال من اجل اشراقه, والاستقبال هناك في السماء على الابواب جنه فيها الحور العين والاباريق وكأس من معين, ولحم طبر مما يشتهون وفاكهه مما يتخيرون.

عندما التقيت عبدالقدوس في القاهرة غداة عيد الفطر الأخير لاحظت صفرة الضروب في وجهه، لكن لا الحدس ولا الهواجس ولا الظنون أو حتى لي أن البحر يوشك أن يبتلع الشمس .

جلسنا نحو ساعة ثالثنا علي الصراري والرابع يحيى الشامي وإذ أخذنا الحديث إلى ما يجري في ظل الثورة الوهاجة والقمع الوحشي لاح من حديثه الأكثر تفاؤلا والأقدر على رؤية الضوء فيما وراء العتمة واستشراف النصر في نهاية الدرب العنيف.

ولعله أيقن أن الاستقرار على القمة ممكن هذه المرة، ذلك أن عبدالقدوس ظل طوال حياته النضالية يحمل صخرة زيف. فما ، بلغ ورفاقه القمة باللقاء العظيم مع إبراهيم الحمدي تدحرجت الصخرة في 11 أكتوبر 1977م وإلى القمة مرة أخرى في 15 أكتوبر والتدحرج إلى السفح في اللحظة ذاتها ثم الصعود إلى الوحدة ثمرة النضال كله والجهة الهائل لحمايتها من الغدر الذي بدأ في ذات اللحظة حتى الحريق الكبير في 1994م، ولم يزل يحمل الصخرة صاعداً إلى الثورة التي ستهوي بالحكم إلى قاع سحيق.

أثناء محكمة قادة حركة 15 أكتوبر سمعت عيسى يسمي أعضاء اللجنة المركزية للتنظيم الناصري وكان يحمل اسم الطلائع الوحدوية اليمنية والوحيد الذي لم أتعرف عليه من قبل ولم ألتقه وجهاً لوجه هو عبدالقدوس المضواحي، إنما كنت أعرف تماماً بما سمعت عن حسن شمائله وسيرته العطرة بازكى الفضائل والأذن تعشق قبل العين أحياناً.

كنت أعرف أن ذلك الطبيب ذا الأروقة الكريمة والأصل الممتد يخصص يومين في الأسبوع للعلاج المجاني في عيادته الخاصة للعمال والطلاب.

فيما بعد لم تراودني رغبة سؤاله عن سبب اختباره العمل في الحديدة بعد تخرجه من الاتحاد السوفيتي. لعل الإجابة كانت محسومة واضحة لدي، فالحديدة منطقة حارة كثيرة الأوبئة شديدة الفقر كما أن وجود التنظيم فيها أضعف منه في صنعاء وتعز (كانت هذه المدن الثلاث هي الأكبر في الجمهورية العربية اليمنية) المدينتين اللتين تستهديان الخريجين. ولذلك فقد وقع بصره على الحديدة لأداء رسالة إنسانية ومهمة نضالية.

الرحلة بعد ذلك طويلة، من فشل محاولة أكتوبر إلى سبق العودة من المنفى الاضطراري قبل أن يطمئن الأخرون من شتى الفصائل ويخطوا رحالهم من صنعاء مع قيام الوحدة والإقرار بحق الوجود الحزبي. لم تعلق قدما عبدالقدوس ولم تتردد عن الاستقرار في صنعاء منذ 1988م، وكان الأوعى أن يقف في آخر الطابور لأنه المطلوب في أوله بحكم اشتراكه في قرار أكتوبر ثم توليه موقع الأمين العام لجبهة 13 يونيو للقوى الشعبية (الغطاء السياسي للطلائع الوحدويون) والتنظيم الوحدوي فيما بعد.

بعد أن رأيته واستمعت إليه تزايد إعجابي به طولاً وعمقاً وإنساناً في البداية عند عودته الأولى أواخر 1979م إثر وساطة تولاها المرحوم مجاهد أبو شوارب. حينئذ عقد لقاء موسع لقيادات التنظيم في منزله جنوب صنعاء في ذلك اللقاء قدم عبدالقدوس تحليلاً للأوضاع السياسية والمهمات التي يتوجب التركيز عليها في المرحلة المقبلة لنا من نشاط وحركة التنظيم واستعرض لقاءات وحوارات أجراها مع شخصيات وتجمعات سياسية (السبتمبريين، اتحاد القوى الشعبية) ، ولفت انتباهنا إدراكه أهمية القوى الأخرى وحساب تأثيرها بصرف النظر عن حجم وجودها في نطاق السعي لتوسيع علاقات التنظيم وتحالفاته، ذلك أن التنظيم ظل مخفياً لم يكشف عن وجوده إلا بحركة 15 أكتوبر وكان كشفاً صاعقاً بكل المقاييس.

فيما بعد ربطتني بعبدالقدوس علاقة حميمة منذ 1988م بعد عودته الثانية من المنفى. وهو الذي قدمني للأستاذ طلال سعمان لأعمل مراسلاً لجريدة السفير. وقد صاحبته في رحلات إلى الخارج ووقفت على علاقاته الواسعة ووزنه الثقيل وحضوره الطاغي بين السياسيين والمفكرين العرب. وما رأيت أحداً من أهل السياسة والفكر زار صنعاء دون أن يلتقيه أو يمر على منزله.

مرة كنا في مجلسه وسمعت صوتاً صاعداً على درجات السلم أعادني إلى مدرج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. أهو الدكتور "محمود عبدالفضيل"؟ وأطل بوجهه وكان هو. ولم أكن أعلم أن لهذا الأكاديمي المصري الذي درسنا المحاسبة القومية اهتمامات سياسية مدت جسر التواصل بينه وبين الطبيب اليمني عبدالقدوس المضواحي.

في العمل التنظيمي عملت مع عبدالقدوس في اللجنة المركزية والأمانة السياسية. وأشهد أنه كان دائماً القائد القادر على خلق روح الأسرة والفريق الواحد في الجماعة التي يرأسها. ولم يكن ابداً منصنعاً ولا مدعياً الحكمة، بل كان قادراً على أن يبسط وجهة نظره بسلاسة وبوضوح بليغ، وأبرز ما يتميز به أنه يستمع بصبر وطول بال.

ولعله من هذه الميزة أصطبر على أوجاعه. ففي مرضه الطويل ما سمعته يشكو أو يتطوع بالإفصاح عما فيه حتى إذا سُئل عن وضعه الصحي وتطور حكى وندى الابتسامة يشع من شفتيه.

لكن عبدالقدوس الصبور الهادئ كان عجولاً.

كان متعجلاً من تطلعه إلى المعرفة وتنمية وعيه السياسي قال لي عبدالرحمن الكهالي زميله في المدرسة. عبدالقدوس كان يقرأ على خلافنا .

وكان مسارعاً مع زملائه إلى فهم إبراهيم الحمدي وتوجهاته الوطنية فالتفوا حوله والتحموا به واعطوه كسرة الخبز اليابسة التي علته يفضل رفقتهم على من عرضوا عليه الموائد الدسمة فيما بعد بحسب تعبيره هو.

ثم أنه وزملائه استبقوا رؤية ما سيصيب اليمن على يد هذا الحكم فحاولا تخليصها منه بعد ثلاثة أشهر من قيامه وسبق العودة من المنفى الاضطراري هي تشوق إلى الوحدة فضلاً عن إيمانه بأن المناضلين يجب أن يروا قادتهم بينهم وفي صفوفهم.

في هذا كله كان عبدالقدوس حتى وقع في خطأ الاستعجال فغادر دون أن يستأذن.

ويا عبدالقدوس قل لي، هل قابلت مرافقيك إلى الجنة وأنت على سرير الموت بتلك الابتسامة الحانية؟

قل لي بربك.

 

 

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي