الرئيسية المقالات مدارات عن الوضع في سوريا
عن الوضع في سوريا
فائز عبده
فائز عبده

يكاد لا يخلو نقاشٌ في الوضع السوري الراهن، من جدلٍ لا يفضي غالباً إلى توافقٍ حول الأحداث الجارية هناك، وأسبابها ودوافعها، وغايات المشاركين فيها، والمحركين والمؤثرين في مسارها وتطوراتها الميدانية والسياسية.

وقبل أيامٍ؛ خضت نقاشاً طويلاً في هذا الموضوع، على حائط صديقٍ في "فيسبوك". كان الطرف الآخر يعلق على المنشور، مدافعاً عن النظام السوري، ويقول إن سوريا (يقصد النظام) "دعمت" المقاومة الفلسطينية واللبنانية، و"استقبلت اللبنانيين والعراقيين والفلسطينيين، وفضلتهم (على) السوري تحت لواء قوميتها"، حسب تعبيره، ومهاجماً –بالطبع- المعارضة التي يتهمها بارتكاب "المجازر"، ويصفها عدة مراتٍ بـ"الميليشيات المسلحة". وتحدث أيضاً عن الأمن المشهود في سوريا سابقاً، والمفقود حالياً: "سورية كانت الدولة الثانية بعد ماليزيا بالأمان، والآن أصبحت بالمئات".

كانت البداية حين وضعت تعليقاً حول تعليقه على منشور صديقي العربي، قلتُ فيه: "ليس هناك أسوأ من التبرير لحاكمٍ يقتل كل مَن خرج مِن شعبه يطالب بالحرية والكرامة. ليس هنالك أقسى على الشعوب من "مفكرين" ينبرون لتضليل حقائق الواقع، وإنكار حق الناس في العيش الحر الكريم". ليرد هو: "نأسف على أشخاص تبرر للمجرمين والميليشيات المسلحة المعارضة بارتكاب مجازر...". جازماً: "سوف تكرر الميليشيات المجازر ما دام هنالك ناس تتهم النظام". وهو ما جعلني أتخيّل "كم أنّ نظام عائلة الأسد لطيفٌ مع الشعب، وأنه حملٌ وديعٌ لا يمكنه أن يمارس القمع المستمر منذ عقودٍ، ولا يقبل أن يحكم شعبه بالحديد والنار، وباسم الحزب، ثم الطائفة، ثم العائلة". ليعترف بأن "النظام في سورية ليس منزلاً، وليس أنبياء ولا ملائكة، كما يوجد الصالح يوجد الطالح"، قبل أن يتكلم بتحاملٍ شديدٍ عن "الثورة" و"المؤامرة والفتنة" والطائفية والأمن، و"أمريكا والكيان الصهيوني والغرب"، ويبرر "الرد من الطرف الأمني".

وأضاف، إلى ذلك، الدعم السوري للمقاومة، واستقبالها اللاجئين، و"أفضال" سوريا على الفلسطينيين، في التعليم والتوظيف. متهماً من سمّاها "ميليشيات الجيش الحر"، بمهاجمة "مخيم النيرب" للاجئين الفلسطينيين في حلب، لأنهم مؤيدون للرئيس السوري، حد زعمه. مضيفاً أن "كل ثورة لا تكون بوصلتها باتجاه فلسطين ليست ثورة، اعذرني.. هنالك أكثر من 50 جمعة لما يسمى الثورة السورية، لم يسموا جمعة واحدة لفلسطين العربية، بل سموا جمعهم لليمن وليبيا وحتى للأكراد، ولم يذكروا فلسطين".

كان ردي التالي: صديقي؛ أنا أعلم أن النظام حكم البلاد بقبضةٍ أمنيةٍ مُحكمةٍ، ولم تشهد سوريا أمناً وأماناً بقدر ما عاش الشعب محكوماً بالخوف من الأجهزة الأمنية وممارساتها القمعية. ولم تكن النزعة الطائفية لتظهر، إلا لأن النظام أرادها كذلك ليستغلها في قمع الثوار. هذه الأساليب باتت مكشوفةً، ولا تنطلي على متابعٍ. أنت تقول إن مسلحين نزلوا "بين المتظاهرين". لنفترض ذلك، لكن ماذا يريد المتظاهرون؟ سأقول لك: يريدون التحرر من الحكم الأسدي الجاثم على صدورهم منذ 4 عقود. أما فزاعة أمريكا والكيان الصهيوني، فقد مللنا هذا الكلام، وسئمنا من ترديد حكامنا العرب القول إنهم يدعمون فلسطين والمقاومة ضد أمريكا وإسرائيل، وهم بالأصل يتودّدون إليهما، وينفذون -في السر والعلن- أوامرهما؛ طمعاً في البقاء في عروشهم الجمهورية. وأما فلسطين والمقاومة، فليس يسعنا إلا أن نشفق عليهما من المزايدة بهما. لا ننكر الدعم المادي والمعنوي الذي ينالانه، لكننا نعلم أن له حدوداً ومقداراً معلوماً، لا يخلو من براجماتيةٍ، ولا يعيد حقوقاً. ثم أين أنتم من مئات الأسر من فلسطينيي العراق، المرمية منذ أكثر من 8 سنواتٍ في الصحراء على الحدود السورية العراقية؟ يا صديقي، دع ثوار سوريا يتحررون من قبضة النظام الاستبدادي، ثم اطلب من ثورتهم أن تكون "بوصلتها باتجاه فلسطين". وصدقني؛ ستكون سوريا، وسيكون الشعب السوري بخيرٍ بدون بشار هذا الذي لا يريد أنْ يعي أنّ عليه إنهاء حكمه، وليس البدء بإصلاحاتٍ كان يتعيّن إجراؤها منذ زمنٍ بعيد.

فتلقيت منه رداً جاء فيه: "أولاً صديقي أنت لم تجب على جميع نقاطي، ثانياً ومنذ متى كان الأمان في البلاد نتيجة ممارسات الأمن القمعية؟! أرجو أن تفهمني هذه النقطة خصوصاً، هل الأمان الموجود في ماليزيا مثلاً هو نتيجة قمع قوات الأمن الماليزية لأبناء بلدها! هل الخطف الموجود في سورية حالياً والفلتان نتيجة عدم القمع؟! لا أعرف ما هو تاريخ الأمان لديك! والمتظاهرون أول ما نزلوا كانوا يريدون الإصلاح، ولكن بعد تواجد الجماعات الجهادية والاشتباكات بين قوات الأمن وبين ما يسمى الجهاديين، وبعدما قتل من الشعب والأمن أشخاص أبرياء، طالبوا بدمائهم، وفزاعة أمريكا والكيان الصهيوني لم يفزع النظام السوري يوماً أحداً بهم". طالباً مني مراجعة "التاريخ الداعم للمقاومة"، ومراجعة معلوماتي، ومتهماً الخليج والسعودية بأنهم "أول من نكل بالشعب الفلسطيني"، وغير ذلك مما يتعلق بالثورة وفلسطين بالأساس.

لم أتمكن من الرد؛ لضيق الوقت يومها، ثم انشغالي بالعمل في الأيام التالية. بعد ذلك أعددتُ رداً مطوّلاً استغرق يومين في كتابته وطباعته ومراجعته، عقب أيامٍ من البحث عن معلوماتٍ ذات صلةٍ. وفكرتُ في نشره كمقالٍ بعد إضافة ملابسات النقاش، وأهم ما ورد في مضمونه من ردودٍ وتعليقاتٍ متبادلةٍ.. وكان التالي:

لماذا تصرّ، يا عزيزي، على المقارنة؟ دعنا نكون منطقيين، ونتكلم بمعطيات الواقع. هل تعتبر انتشار عناصر المخابرات في الشوارع وأوساط الناس، أمناً؟ لقد مررتُ على دمشق في صيف 2002، ومكثتُ يومين، خلالهما لم أرَ بوضوحٍ إلا رجال المخابرات، وآخرين يهمسون بالقرب من أذني بأمورٍ أخجل أن أفصح عنها هنا. على أنّ لي بعض المشاهدات الأخرى بذات الخصوص، وعندي رواياتٍ كثيرةً من أصدقاء درسوا في سوريا الثمانينيات والتسعينيات، وتعرضوا للكثير من مضايقات البعثيين وأذيتهم. وهل مفهوم الأمن عندك أن يستكين الناس خوفاً من بطش الأجهزة، ومن مصيرٍ غير معلومٍ وغير معلنٍ، لمن يسوقه قدره أو حظه إلى أحضانها المظلمة؟ نعم، لم يكن الإعلام يكشف الكثير عن الوضع الأمني في سوريا، وذلك لأن أحداً لم يكن يجرؤ على التبليغ عن حادثٍ أو فقدٍ، أو الحديث في أمورٍ تتعلق بالسياسة وتفرعاتها، أو بالحكم وتشعباته الحزبية والأسرية.

الأمن، يا صديقي، هو نتيجةٌ لسريان القانون على الجميع، وتجلٍّ لثقةٍ متبادلةٍ بين المواطن وأجهزة الأمن. ليس الأمن أن تجبر الناس على نمطٍ من الحياة يفقدون فيه إرادتهم، وأن تحدّ من حركتهم، وتقيّد حريتهم لدواعي السلامة والأمان. ولقد استوقفني ما سميته "تاريخ الأمان". أظن أنّ علينا أنْ نتحدث عن مفهوم الأمان، ماهية الأمان، أو ظاهرة الأمان إن أمكن.

عموماً؛ أجدك تقول شيئاً، ويصدر عنك نقيضُه: تقول إن الحديث بيننا هو تبادل آراء، وليس فرض آراء، بينما تصرّ على تكرار بعض النقاط والأفكار لتمريرها بغية التأثير على قناعاتي. من حقك أن تحاول إقناعي بوجهة نظرك، لكن لم يكن عليك، بدايةً، نفي الحق في فرض الآراء!

نأتي إلى موضوع فلسطين والمقاومة واللاجئين. سبق أن قلتُ لك إن الدعم السوري لحركات المقاومة في فلسطين ولبنان له حدودٌ ومقدارٌ معلومٌ؛ ذلك أنه يخضع لتقديرات النظام السوري لجهة مصلحته الخاصة وأجندته السياسية. ولا أريد أن أتوسع في هذا، لأن المقام لا يسمح، ولأنه يفترض أنك على اطلاعٍ ومتابعةٍ سياسيين. أما اللاجئون الفلسطينيون في مخيمات الصحراء، والذين قلتَ لي بفرحٍ واستبشارٍ إنهم الآن في أوروبا، وذكرت مخيم "التنف" تحديداً، دعني أقول لك إن فرحتك بهجرتهم إلى أوروبا، لم ترتسم على محيّا أيّ منهم؛ ذلك أنهم غادروا مجبرين إلى أقاصي الأرض، حين لم يجدوا عربياً ينقذهم من ذلّ العيش في خيام الصحراء كمنبوذين لا يليق بسوريا "المقاومة" أن تحتويهم، ووجدوا دولاً كتشيلي والسويد والبرازيل وغيرها، أرحم من ذوي القربى. وإن كان بعضهم لا يزال وضعه هناك حتى الآن غير مستقرٍّ، فيكفي أن تلك الدول استقبلتهم على أراضيها. ولعلمك إنْ هي إلا سنواتٌ، وسيأتون بجوازات بلدان المهجر، وستفتح لهم الأبواب المغلقة من قبلُ في وجوههم. وأنا أتحدث، هنا وسابقاً، عن مخيمات: التنف، الهول، الوليد، وغيرها.

وأما بخصوص حديثك عن المناصب الحكومية التي يشغلها الفلسطينيون، والمقاعد الدراسية المجانية للشعب الفلسطيني، وكأنك تحسدهم على ذلك، فدعني أقول لك إن هذا النظام الذي تدافع عنه، ليس له فضلٌ في ذلك؛ إذ إن هذه الخصوصية التي يتميز بها الفلسطينيون في سوريا، ليست لصيقةً بنظام الأسد: الأب أو الابن، لأنها متاحةٌ لهم من زمنٍ بعيدٍ، حتى قبل أن يأتي بشار إلى الدنيا. بل إن أصدقاء فلسطينيين أكدوا لي أن وضع اللاجئين في سوريا، كان أفضل بكثيرٍ قبل استيلاء الأسد الكبير على السلطة، وكان منهم وزراء وقادةٌ عسكريون، وأن سوريا –شعباً وحكومةً- من أفضل البلدان العربية استقبالاً وتعاملاً وإكراماً للفلسطينيين منذ بدأت محنة لجوئهم منتصف القرن الماضي، حتى بدأ النظام الحالي بالتضييق على الناشطين منهم، وتوطئة سقف امتيازاتهم، ووصلت إجراءاته حد الاعتقال والطرد، والمنع من دخول البلاد.

واسمح لي، يا عزيزي، ألا أتحدث عن الدور الخليجي عموماً، والسعودي بخاصةٍ، أكثر من القول إنه دورٌ سياسيٌّ بحتٌ، لا علاقة له بمسألة الحرية والديمقراطية، ولا القضية الإنسانية، بدليل اختلاف مواقفها بين ثورةٍ وأخرى من ثورات الربيع العربي. وسبق لي أن نشرتُ مقالاتٍ ناقدةً لموقف السعودية من ثورة اليمن تحديداً، في صحفٍ ومواقعَ الكترونيةٍ.

وخذ مني هذا التأكيد الجازم، يا صديقي: إنها انتفاضةٌ شعبيةٌ عربيةٌ خالصةٌ لوجه التحرر من استبداد أنظمة القهر والفساد والطغيان، في بلادنا العربية المنكوبة بحكامها المتسلطين على رقاب شعوبهم، الجاثمين على صدورها المنهكة بالذلّ والهوان والقمع والكبت، ومصادرة الإنسانية والآدمية وغالب الحقوق الأساسية.

سيقامر ويكابر من تبقى من هؤلاء الطواغيت، وسيجدون من يساندهم إلى حين. لكنهم سيسقطون يوماً، لا محالة، لأن إرادة الشعوب من إرادة الله، وإرادة الله لا تُقهر، كما قال الزعيم جمال عبدالناصر. ذلك أن القوة التي تمثلها أجهزة أمن النظام والوحدات العسكرية التي يسيطر عليها، والدعاية ممثلةً في وسائل الإعلام ومثقفي ومشائخ السلطان، لن تصمدا كثيراً أمام الواقع الذي يفضح بشاعتهما، ويدحض افتراءاتهما. كما أن الموقف الروسي المستبسل في الدفاع عن انتهاكات نظام الأسد، والتغطية على تجاوزاته، وتبرير جرائمه، ليس له من دافعٍ سوى معارضة الموقف الأمريكي الأوروبي، وهو ما جعل الأحداث المأساوية في سوريا، تبدو كصراعٍ سياسيّ روسيّ غربيّ، تقطر دماؤه على الأرض السورية.

سيسقط هؤلاء الطغاة كما سقط مَن قبلهم، وسيؤولون إلى ذات النهاية وبئس المصير. لعلك تذكر قول مبارك إن مصر ليست كتونس، ومن بعده قال صالح إن اليمن ليست تونس ولا مصر، ولا يزال الأسد يقول إن سوريا تختلف عن شقيقاتها العربيات.. هل أخبرك أين مبارك؟ وأين صالح؟ ومثلهما القذافي، وأولهم الهارب بن علي؟

 

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي