الرئيسية المقالات مدارات إليه فى يوم ثورته
إليه فى يوم ثورته
عمرو  صابح
عمرو صابح

ضابط شاب فى الرابعة والثلاثين من عمره يحمل رتبة مقدم أركان حرب بالقوات المسلحة المصرية ويعمل كمدرس لمادتي الإستراتيجية والتاريخ العسكرى بالكلية الحربية،تم تكريمه كأحد أبطال حرب فلسطين عام 1948 لبسالته فى القتال ودوره البطولى أثناء حصار الجيش المصري فى الفالوجة ،متزوج من إمراة يحبها ولديه أربع أطفال – لم يكن قد أنجب أبنه الأصغر عبد الحكيم بعد- يمتلك مسكناً محترماً وسيارة حديثة ولا يعانى من أى مشاكل حياتية أو مادية على الإطلاق.

بكل المقاييس كان الضابط "جمال عبد الناصر" يعيش حياة مستقرة سعيدة ولو لم يفجر الثورة بعد هذا التاريخ بيوم واحد، وانتظم فى المسار الطبيعى لعمله لأصبح بعد عدة سنوات لواء بالجيش المصري يحمل رتبة الباشاوية ولعاش حياة مرفهة يتمتع فيها بكل مزايا منصبه.

إذا فما الدافع الذى جعله يؤسس تنظيم سري لقلب نظام الحكم فى وطنه مادام لا يُعانى من شئ؟

فى مذكرات زوجته السيدة "تحية كاظم" والتى صدرت العام الماضي قد نجد بعض الإجابات فعلى امتداد صفحات المذكرات المكتوبة بعفوية وصدق نلاحظ ان جمال عبد الناصر قبل الثورة لديه إحساس طاغى بآلام المجتمع وبالظلم الطبقى السارى فيه ،تحكى السيدة تحية فى مذكراتها واقعة تمت قبل ميلاد أبنها خالد عندما قرر الطبيب الذى يتابعها زيادة ثمن أتعابه بصورة لا يستطيع المواطن العادى وقتها تحملها وعندما يعلم جمال عبد الناصر بذلك يغضب ويقول لتحية نحن نستطيع تحمل الزيادة ولكن ماذا يفعل الفقير هل يموت لعجزه عن العلاج ودفع ثمن الدواء؟!

وفى مكان أخر من المذكرات تقول السيدة تحية أنها قبل الثورة وبعد علمها ببعض مما يخطط له زوجها تسأله لماذا تفعل كل ذلك ؟ فنحن لا نعانى من شئ وأخشى أن يفشل سعيك فأتشرد أنا وأولادك ويضيع مستقبلك،فيرد عليها جمال عبد الناصر بأنه لم ولن يكون فى يوم من الأيام أنانياً منشغلاً فقط بمستقبله ومستقبل أبناءه بينما يعانى أبناء وطنه الفقر والحرمان.

وأيضاً فى مذكرات صلاح الشاهد مدير المراسم برئاسة الجمهورية "ذكرياتى بين عهدين" نقرأ الواقعة التالية حيث وصلت لصلاح الشاهد ذات يوم حقيبة مليئة بالحلي والمجوهرات هدية للرئيس جمال عبد الناصر من ثري عربي وقد رفض الرئيس قبولها وطالب صلاح الشاهد بإرجاعها لصاحبها وإبلاغه رفض الرئيس تلقى هدايا وعندما يعيدها الشاهد للثري العربي يرفض ويلح فى أن يقبلها الرئيس الذى يغضب ويقول لصلاح الشاهد "لقد كنت أحيا حياة كريمة قبل الثورة ولم يكن ينقصني شئ ولم أقم بالثورة لأمتلك المجوهرات والأموال إن بإمكاني الآن مضاعفة راتبي عشرات المرات ولكنى لن أفعل ذلك لأن لدى مبادئ وحلم أريد تحقيقه لحساب الجميع وليس لحسابي الشخصى أو حساب أسرتى."

هذه الوقائع وغيرها كثير قد تمثل مفاتيح لفك ألغاز شخصية جمال عبد الناصر تلك الشخصية المتفردة بالغة العمق والتعقيد فى تاريخنا العربي كله.

امتلاك حلم للجميع ،الزهد فى متع الحياة الزائلة ، التجرد والعمل بإخلاص لخدمة ما يؤمن به من أهداف ، الطموح والقدرة على التحدى، تلك الطاقة النفسية الهائلة على اجتياز الآلام وتخطى الصعوبات ،الرغبة الدائمة فى تحقيق المزيد من النجاحات ،اليقين بقدرات الشعب المصري وبإمكانات مصر كقوى كبرى.

شكلت تلك الصفات ملامح شخصية جمال عبد الناصر وصبغت فترة حكمه التى حفلت بالتحديات وبالمعارك المتواصلة دفاعاً عن استقلال مصر وحرية إرادتها لذا تظل فترة حكم جمال عبد الناصر حقبة استثنائية فى التاريخ العربي الحديث ،فيها كنا على موعد مع التاريخ وبعدها وبالانقضاض على مبادئها خرجنا من التاريخ.

جمال عبد الناصر ليس تاريخاً مضى وأنتهى بل هو كما قال جمال حمدان الحاكم المصرى الوحيد الذى استوعب الجغرافيا السياسية لمصر وفهم خطورة وأهمية موقع مصر .

جمال عبد الناصر هو محرر مسودة مصر المستقبل .. مصر العظمى.

إن قراءة كتاب "فلسفة الثورة" الذى كتبه جمال عبد الناصر عقب نجاح الثورة تكشف لنا مدى عمق أفكار الضابط الشاب إن هذا الكتاب صغير الحجم كبير القيمة نجد فيه الدوائر الثلاثة التى يجب أن تتحرك فيها السياسة المصرية - لتضمن مكانتها كقوة إقليمية عظمى ومؤثرة - الدائرة العربية تحيطها الدائرة الأفريقية تحيطهما الدائرة الإسلامية ، نجد عبر سطوره أهمية موقع مصر الجغرافى ودورها التاريخى الذى فرضته عليها ضرورات الجغرافيا والتاريخ، يطالب فيه جمال عبد الناصر بحتمية أن يكون بترول العرب للعرب وأن يستخدم كوسيلة لتنمية وتحديث الوطن العربي كله ، نتعرف عبر السطور التى كتبها الرئيس الراحل على مأساة فلسطين وعن مدى ارتباط أمن مصر القومى بأمن فلسطين،ندرك مدى أهمية استغلال موسم الحج لمناقشة شئون العالم الإسلامي وقضايا المسلمين فى كل أنحاء العالم.

كل تلك المدركات فى وعى جمال عبد الناصر وهو مازال ضابط شاب شكلت معالم لسياساته وبنضجه الفكي بعد ذلك ومع خبرة الحكم بلغ جمال عبد الناصر الذروة كسياسي ومفكر صاحب رؤية لمستقبل مصر والأمة العربية كلها وهو ما يتضح من دراسة تراثه الفكرى حتى وفاته.

 لذا يظل جمال عبد الناصر محلقاً فى مدار خاص به بالنسبة لكل الساسة العرب قبله وبعده بما أمتلكه من أفكار وبما أنجزه من أعمال وبما خلفه من تراث فكري ونضالي وسياسي.

فى الذكرى الستين لثورتك يا صانع الأحلام ومفجر المستحيل

 لا نبكيك ولكن نفتقدك.

 لا نقدسك وإنما نحترمك ولن نسمح بالإساءة إليك وبالافتراء على تاريخك .

 نعدك أن نسعى جاهدين لتحويل فكرك لتنظيم مؤسسي فاعل ، نعدك أن نحاول الوصول إلى جماهيرك فى كل ربوع مصر والأمة العربية.

 نعدك أن تُبعث من جديد على يد الشباب العربي الذى أحبك دون أن يراك أو يتمتع بإنجازاتك .

 الشباب العربي الذى وجد في تجربتك السبيل للحاق بالعصر وبامتلاك العزة والكرامة والتمرد على الواقع الكئيب الحالى.

أبو خالد نفتقدك ونفتقد دباباتك.

سلام عليك فى عليين فى جنات الخلد مع الشهداء والصديقين

إقراء أيضا